فلسطين إدوارد سعيد

فلسطين إدوارد سعيد

25 سبتمبر 2017

هزيمة 1967 حدث فاصل في وعيه الفلسطيني

+ الخط -
(في الذكرى الرابعة عشرة لرحيل إدوارد سعيد)
كيف يحدث الوعي؟ لا بدَّ أن للمعرفة الدور الأكبر في ذلك. هذا ممكن. أن تعرف يعني أنك تكوُّن وعياً قد يتجاوز ما تعرف، لأن المعرفة تفتح أبواباً متقابلة، متداخلة، لم تفكر فيها من قبل. كم باباً تفتح لنا القراءة، وهي واحدة من أدوات الوعي، فيما نحن بصدد بابٍ واحد؟ لكن كيف تتكوَّن العاطفة؟ هذا ما يصعب حصره في بابٍ أو وجهة.
قد يكون لـ "الصدمة" دورها في حدوث "طفرة" في الوعي والعاطفة. وهذا ما سيحدث لسعيد، طالب النقد الأدبي، والأستاذ الجامعي لاحقاً، حيث سيختفي اسم فلسطين من حياته نحو أحد عشر عاماً ، على الرغم مما كان يجري فيها من بناءٍ حثيث لكيان صهيوني، كما يخبرنا سعيد نفسه.
كان إدوارد سعيد الطفل يعرف أنه فلسطيني.. أو أنه، على الأقل، يتحدَّر من تلك البلاد التي تسمَّى فلسطين. كانت فلسطين قد شكلَّت قضيةً في طور التنامي والانتقال من طورٍ مأساوي إلى آخر. ولكن تلك القضية لم تدخل الحيّز العائلي لإدوارد سعيد. فإذا تسللت إليه معرفة بما يجري في بلاد أهله فهي، على الأغلب، ذات مصدر خارجي، إذ لم تكن عائلته من النوع الذي يهتم بالقضايا العامة، لا تلك التي تخصّ بلادهم الأولى، ولا التي تخص البلاد التي يعيشيون فيها، ويراكمون ثروتهم: مصر. هذا ما تبيّنه لنا مذكراته "خارج المكان"، وحواراته وبعض مقالاته، خصوصاً مذكراته التي لم تترك مجالاً للشكِّ في غربة عائلته عمّا يجري في بلادها ورفضها، القاطع، الانخراط في الحياة المصرية. قد يكون هذا الاغتراب، الشاذ، الممعن في غيبوبته، السبب الذي جعله يتساءل عن هذا "السرّ" الاغترابي. كان والده يذكّره دائماً، بأنه أميركي. أنت أميركي! كيف ذلك، وهو لا يلحظ شيئاً من هذه الأميركية على سحن محيطه العائلي المباشر، ولا في خلفيته "الثقافية". كيف تكون أميركياً، وأنت تنتمي إلى عائلة تدعى: سعيد، حتى لو وضع الأهل "نيراً"، بحسب تصريحه، على اسمه العائلي. لقد اعتبر إدوارد اسمه، الغريب، هذا، نيراً على عاتق (رقبة) لقبه العائلي. الشيء الأميركي الوحيد الذي تملكه العائلة جواز سفر والده الذي حصل عليه من خلال التحاقه بالجيش الأميركي في الحرب العالمية الأولى. هذه هي حدود أميركية العائلة. لولد ذكي، ذي فضول معرفي، مثل إدوارد يسهل تسلل الشكّ إليه من هذه الكوّة. هذا الإمعان في الاغتراب شاذ، ويدعو إلى التفكير في "سرّه". قد يكون هذا الجذر الغائر لتشكل وعيه بفلسطينيته، وزياراته القليلة إلى القدس، وأكثر إلى بيروت، أسَّس لعاطفةٍ راحت تنمو ببطء في أعماقه.
يحدّد إدوارد سعيد هزيمة يونيو/ حزيران 67 باعتبارها حدثا فاصلا في وعيه الفلسطيني، ودخول السياسة، من ذلك الباب الكئيب، إلى وعيه العام وحياته اليومية. كان سقوط فلسطين عام 48 حدثاً درامياً هائلاً في حياة الناس في العالم العربي، غير أن هذا الحدث لم يُحدث الوقع المدوي المتوقع في عائلةٍ فلسطينيةٍ سقطت مدينتها، واحتل بيتها، ولم يعد ممكنا لها أن تعود إليه.
قلت، من قبل، إن والد إدوارد سعيد لم يكن يذكر اسم فلسطين في البيت، أما أمه فكانت تنزعج من ذكر فلسطين، بل طوَّرت كراهيةً لفلسطين والسياسة معاً. ماذا كانت تلك "الكراهية" تخبئ وراءها، يا تُرى؟ تعذّر علي فهم سبب واحد لذلك. لكن مذكرات سعيد ترينا جانباً طبقياً ومذهبياً للعائلة، منفصلاً تمام الانفصال عن الواقع العربي المحيط في أي مكانٍ أقامت فيه، سواء كان في القدس أم في مصر أم في لبنان التي تعود إليه جذور عائلة الأم. كانت الهويات، في تلك الفترة، قد بدأت تتفجّر على غير صعيد: عروبية، ماركسية، انطوائية مسيحية (في لبنان خصوصا). لكنَّ الأم سيَّجت عائلتها (إدوارد تحديداً) بسور صيني حيال تلك الهويات. الهوية الوحيدة التي حرصت عليها كانت عائلية. كأن العائلة كانت بديلاً عن العالم الخارجي. كأنها الحصن من شرور الخارج، بما في ذلك شرور السياسة. وإن لمح المرء نوعاً ملتوياً من "الهوية" في سلوك أم إدوارد سعيد فقد تكون "أقلوية": انتماء إلى "أقلية" ممكن أن يهدّدها طوفان الأكثرية العربية – المسلمة. هل كان هذا سبب "كراهيتها" فلسطين، وقضيتها التي اكتسحت العالم العربي من مشرقه إلى مغربه؟ ممكن.
ويا للمفارقة أن يتحوّل سعيد إلى ما صرنا نعرفه. الاسم الذي ارتبط بفلسطين، خصوصا، لدى الأميركيين أكثر من أي مثقف فلسطيني آخر.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن