فصول الموت والحرب.. عقارب المدفعية تعدّ الثواني

فصول الموت والحرب.. عقارب المدفعية تعدّ الثواني

30 يونيو 2017
( في حي الشجاعية بمدينة غزة، تصوير: محمد عبيد)
+ الخط -

فَصل ليلة الموت المحتم
الجُمعة: 18/07/2014
الساعة: 00:00
كنتُ أضع السماعات مُندمجًا مع إحساس الموسيقى التي أسمعْ وأقرأ رواية "إحدى عشرة دقيقة" لـ باولو كويلو، ناسيًا الحَرب وويلاتها؛ ولم تكن الحرب البرية قد شرَّعت أبوابها بعد. قبلها بيوم استلمنا منشورات تُهدِّد بالإخلاء، لكننا ما أخلينا لثقتنا بأن منطقة الزنَّة من أقوى مناطق التمَّاس ولطالما كانت شوكة في حلق العدو لم يستطع أن يمررها بسلام أبدًا.دقّت الساعة الثانية عشرة بعد مُنتصف الليل؛ ولم تتوقّف قذائف العدو العشوائية عن الانطلاق في كل صوبْ ومكان. قنابل دخانية تملأ الأرجاء وصوت المدفعية كصوت الساعة، قذيفة كل ثانية، وإذا توقف صوتُ القذيفة عليك أن تتأكّد أنك ما زلت على قيد الحياة لربما تكون الساعة توقّفت أو صوت القذائف توقف وحسب.

صوت إطلاق نار عشوائي من قوّات الاحتلال، وغطاء جويّ بشكل كثيف جدًا أفقدني جوَّ تركيزي. كان من الواضح أن قوّات الاحتلال كانت تحاول جاهدةً صُنع غِطاءٍ كثيف من أجل دخول قوّاتٍ خاصة وكان هذا فقط حسبَ تصوّري؛ لم أرد أن أشارك العائلة بهِ؛ فلربما هَزئوا بهِ مُحتجين بأني دائمًا في كهفي، وكيف لي أن أفهم في التكتيكات العسكرية والمقاومة أدرى بشعاب الزنة وما فيها.

صوت صفيرٍ يصمّ الآذان الآن، ها هي الحرب يشتد وطيسها لدينا أو الاحتلال يحاول أن يخيف بذلك. انفجار في أرضنا. سقطت قذيفة أثناء مراقبتي النافذة. لم أستطع استعادة تركيزي بسرعة من قوّة الضربة ولم أكن متأكدًا من حالتي حينها؛ لكني كنت متأكدًا بأني سمعت صوت الأطفال في البيت وكلّهم قد قفزوا من نومهم من الصوت. كانت أختي المتزوّجة معنا نافدة بجلدها إذ إن بيت (سلفها) مهُدّد بالقصفِ لكونهِ شخصية مطلوبة في أحد أجنحة المقاومة.

الساعة الآن الواحدة تمامًا؛ والكل جُلوسٌ يرقبُ الموت الآتي من بعيدْ؛ فلا هربٌ ولا خيار. تسقط قذيفة شرق البيت، وأخرى غربهُ والبيت مَحميٌ بعناية الإله. سمعنا صوت سيارة الهلال الأحمر تقوم بنقل المُسنين ثم تم استهدافها بسرعة. الكهرباء مُنقطعة وبراميل الماء انتهت البارحة وقت صلاة المغرب بعد الإفطار، الإنترنت كان قد انقطع منذ وقتٍ ليس بالقليل نظرًا لإصابة أسلاكهِ بصاروخ طيارة استطلاعٍ مُستهدفةً دراجة نارية كانت تمر من تحتها. قالَ والدي لأمي أن تعد طعام السُحور كي نأكله وننوي الصيام حتى إذا مِتنا؛ نموت على صيامنا ويكون هذا تَجسيدًا لـ"العشاء الأخير" أو السحور الأخير ربّما.

لم يكن هناكَ نَفسٌ للأكل. أكلنا لقمتين من كل شيء وانتهينا. أعلنَّا الصوم وجلس بعضنا يتلو القرآن وآخر يصلي وأمي تفعل كليهما. جلسنا ننتظر صلاة الفجرِ حتى نُصليها سَويًا جماعةً، فلا مكان للخروج من البيت وإلا فقد تأتيكَ قذيفة هاربة من فوهة الموتِ تقصدكَ فتهوي على أم رأسكِ فتطير.

الفَجْر؛ انتظرنا صوتهُ من مساجد المنطقة الأربعة. لكن يبدو أنه لم يستطع أي مؤذن الوصول إلى مسجدهِ مُعلنا دخول وقت الصلاة. سمعنا صوت مَسجدٍ بعيد. أقمنا الصلاة. كلنا الـ 15 صغارًا وكبارًا خلف والدي نُصلي. ربما تكون صلاتنا الأخيرة كذلك، من يعلم؟

في ذلك اليوم لا أنسى أبي حين أجهش بالبكاء وهو يُصلي بنا في الدعاء. كلنا بكينا من بكائهِ. أخي الصغير -عُبيدة- صار يضحك حينما بكى أبي أوّل الأمر وحده؛ لكن حينما رآنا نشتركُ في سيمفونية الألم.. بَكى هُو الآخر. انتهينا من الصلاة؛ عُدت إلى كهفي. حاولت أن أستلقي لأنام ولو كذبًا على نفسي فالتعب من قصف الليلة السابقة كان قد أرهقني، ولا سبيل.. نِمتُ كما تنام الحمائمُ حين يصيبها الرصاص.. نمتُ كأني سأنام آخر مرّة. نمتُ كي لا يدركني الموتْ كَذبًا على نفسي.


فصل النزوح
الجُمعة: 18/07/2014
الساعة: 06:30
هل يُذهِب النوم ريح الموتِ إن أتى غفلةً؟ أم هل يا تُرى سأشعرُ بكل تفاصيل الفقدِ.. فقدي لنفسي؟ وها أنا للمرّة الألف على التوالي التي أحاول فيها النوم؛ ولكن صوت القذائف لا يسعفني حتى لآخذ نَفَسِي؛ فالقذيفة فِي موطني أسبق إليَّ من الأوكسجين.

تراتيل الصباح لم تعد تجد من يرتّلها، لأن الطيور والحمائم لن تجدَ لها في مكاني موطنًا؛ بل أصبحتْ أصوات الفاجعة تهطل كما لو أنها  أمطار حِمضية تسقط عليَّ لتفيض أرضي بأرواح لم تكن لتكون فيها. صوت صفير قويّ. يا إلهي ما هذا الصوت. انفجار. قمت من فِراشي الذي لو لم أقم منهُ لكان لحدي – لاحقًا –. توجهت لغرفة المَعيشة قاصدًا العائلة. وجدتهم كلهم هناك واجمين. لم يكن هناك أحد قد حاول النوم غيري، ربّما لأني قد اعتدت على أجواء العُزلة ولم أرد أن أفقدها حتى ولو في ليلة الموت المُحتَّم.

كان صوتُ الصفير يضجّ في أذني وكل عائلتي، كنا نضع أيدينا على آذاننا من الصواعق حذرَ الموت. سمعنا صوت الأشلاء تتساقط على درجات البيتْ. لقد كانت هذه الضربة على "زريبة" الغنم الخاصةِ بنا خلف البيتْ. لا أحد يعلمْ. فأسدال الليل كانت ما زالتْ تغشينا؛ ولم يبدُ الصباح قريبًا يومها أبدًا كما كان يردّد والدي طوال الليل "أليس الصبح بقريب؟!".

نتكوّم، كنا خمسة عشرَ شخصًا في غرفة غربية واحدة. في حال لو كان القصف مدفعيًا سنكون مصابين فحسب أو يموت بعضٌ ويبقى الآخر ليكمل النسل بعدنا، ولكن لو كان القصف جويًا فسنموت جماعةً، وتكون مجزرة أخرى ترتكب بلا طائل. يصحو أخي الصغير من نومهِ على صوت قذيفةٍ هَوَتْ بجانب البيت فيصرخ: "ما هذا" فنقول لهُ "قصف" فيقول: "اخفضوا الصوتَ قليلًا إذن، أريد النوم". نضحك قليلًا، ثم يعود ليقتلنا الأسى. دراما الموت، ها هي بطارية هاتفي على وشك النفاد. هي الأخيرة في المنزل لأننا نسمع المذياع عليهِ جماعةً. كلّها دقائق، وتنقطع أخبار العالم عنا. ثم نعود إلى غياهب النسيان. لا أخبار ولا جديد، وربّما لو متنا، فستعرفون بهذا بعد أيام، فالإسعافات غير قادرة على الوصول إلى بيتنا. والطائرات لا تفرّقُ بين الضحية والمسعف. كلنا ضحايا، كلنا أهداف.

لم تكد تبلغ الساعة السابعة والنصف حتى سمعنا أصوات أهل الحي وهم يخلون منازلهم. فبين ليلة وقبل أن يأتي ضحاها، كان الاحتلال قد توغل قرابة كيلومترين في أراضينا، وأن أقرب دبابة لم تكن تبعد خمسمائة متر عن بيتنا. مع أن والدي كان دائمًا ضدّ فكرة الإخلاء. إلا أنه حين رأى ما لم تره عيناه منذ أن كان عاملًا في الأراضي المحتلة، حين رأى أرتال الدبابات مُكدّسة بالقُرب منا، خاف علينا. ولم يتعنّت كغيرهِ، بل أعمل عقلهُ وقال لوالدتي بأن تأخذ إخوتي وترحل من البيت إلى بيت خالتي في نصف البلد لأن الوضع لم يعد آمنًا أبدًا. واتصل بزوج أختي طالبًا منه أن يأتي ليأخذها وبناتها إلى ملاذٍ تأمن فيهِ نفسها وما تملك.

أمي رفضت فكرة الإخلاء قائلة بأنها تريد الموت في بيتها، وأنها تريد النوم لأنها لم تنم طوال الليل. صدقًا؛ لا أدري ما دهى أمي حينما كانت تفّكر هكذا، صحيح أن الموت بالبيت يدلّ على نخوة وتشبث بالجذور؛ لكن في حالة واحدة فقط، وهي أن يباغتك من يريد قتلك. ولكن حين تعلم أن بيتك مهدّد بالقصف أو التجريف وتبقى فيهِ فهذا هو عين الانتحار وإلقاء بالنفسِ إلى التهلكة.

بعدَ عناءٍ طَويل. اقتنعت أمي بأخذ إخوتي للخارج إلى بيت خالتي. أخبرني والدي بأن أذهب معها. فرفضتْ قلتُ أريدُ أن أبقى بصحبة كُتبي. أو أن أحاول أن أجهّزها للنقل على الأقل. فهي أغلى ما أملك بعد – الروح – ولا أريد أن أفقدها. جلستُ أصنف الكُتب وأضعها في أكياس مُجهزًا إياها لآخذها معي، ولكني وما كدت أن أنتهي حتى وجدت أن كمية الكتب التي لدّي بحاجة إلى سيارة شحن لنقلها من بيتي. ضحكتْ لأني نسيت بأني أملك أكثر من خمسمائة كِتاب.

الكاتب وحدهُ هو الذي يقيم علاقة مع المكانْ. جَلستُ بغرفتي على كرسيَّ الذي اعتدت الجلوس عليهِ عُمرًا. طفقتُ أدرس تفاصيل المكان فلربما كانت هذه آخر مرّة أراها فيه. تُهتُ. نعم تهتُ في ذكريات المكان فعبق الرائحة يخنق. للتاريخ رائحة نراها قبل أن نشمها، وتعمينا قبل أن تخنقنا.

كُتبي. حينما أدركت كثرتها ألغيت فكرة إخراجها من البيت، ولذلك قمت بوضعها في أكياسها تحت المكتبين في غرفتي. في حال لو تم هدم البيت، قد أستطيع إخراج ما يتبقى منها. علاقتي مع كُتبي أقوى من أي شيء آخر. هِي وطني الأكبر أتخيلني أفقده. فأتوهُ مُجددًا في ذاتي، ولا يسعفني صراخ والدي من ضيق الوقت. كل شيء هنا يسير بسرعة، إلا الموتْ؛ يأتيني على مَهل. حاولتُ أن أصحو من شرودي لكيلا أفقدني. ولكن الشُرود يومها لم يكن خيارًا، وكل دقيقة في الواقع تساوي عُمرًا من التفكير في اللاشيء.

وها هو فصل آخر من فصول الموت يحدق بي من كل جانب. ولا مناص. سأموت اليوم قبل غدٍ؛ سأموت اليوم مائة مرّة قبل أن يموت جَسدي. سأموت حين يموت صَديقي، حينما تموت معه ذكرى لي. ذِكرى كنت قد اقتسمتها أنا وهو يومًا، ذكرى كنا نعلقها على جدارِ النسيان الغائرة، فإن أنا نسيتها ذكَّرني هُو بها. والآن هو يدخل في ذاكرة أخرى، ليغيب في ذاكرة الفقدِ ولا يعود إلا جُرحًا دامِغًا في روحي الضعيفة. من يُهديني ذِكرىً تموت بموت صاحبها؟! ذِكرىً لن يؤلمني رَحيل سيد مَشهدها وبطلها الوحيد. من؟!

سأموت حين يقصف بيتي بكل ماضيَّ الحنونْ. لسوف أفتقد ذاك الجدار المصمت الذي كنت أحدق بهِ وقت الامتحانات. سأفتقد علاقة الألفة التي تكوّنت فيما بيننا. علاقة الأب بالبنين. سأفتقد الزاوية التي كنت أتكورُ فيها حينما يؤنّبني والدي. زاوية حزني الوحيدة. سأفتقد نافذتي التي اعتدت أن أتكأ عليها كلما صحوت من النومِ مراقبًا ترانيم عصافير الصباح. وكتبيَ المرصوصة على المكتب. حاسوبي الذي خاض معي كل أيامي. وكل شيء.

حينما يُقصف بيتي، فأنا لا أفقد فقط البيت بماديتهِ. بل سأفتقد ملايين الأوطان التي احتضنتني يومًا. فكوبي الذي اعتدت الشرب منه.. وطن، وقلمي الذي اعتدت الكتابة بهِ.. وطن. وقميصي المكتوب عليهِ "بلادي وإن جارت علي عزيزة".. وطن. عينا أمي اللتان كنت أتأملهما صباح مساء.. وطنْ. حتى الطاولة التي اعتدنا الاجتماع عليها حين الطعامِ.. وطن. سأفتقد كل هذه الأشياء حين رحيلي عنها. هل سأرحل؟ فكرة الرحيل والوداع والفقد من الأفكار التي لم أتمعن بها يومًا. ستكون هذه التجربة الأولى. هل سأشعر بكل شيء دفعة واحدة لأني سأفقده الآن؟! لا. أنا أشعر بِكل شيء الآن ليس لأني سأفقده؛ بأني لم أكن أتصوّر بأني سأفقده يومًا.

أخبرتكم بأني أقمت علاقةً مع المكانِ لم أكن أتصور بأن لها نهايةً يومًا. دائمًا ما يكون الانفصال صعبًا. وما أصعبهُ حينما يكونُ قسرًا. ودعتُ كل أشيائي الصغيرةُ، وطبعتُ قبلة على جبينْ غرفتي قبل خروجي. لم أحمل في حقيبتي إلا بضعَ شهاداتٍ ووثائق بسيطة. ومن الكُتب أربعة حتى أشبع جُوعي في منفاي القريب.

خرجتُ من منزلي. قصدتُ الشارعَ حاملًا مظلة الرجاء تحميني من أمطار الموتِ المُتساقطة عليّ من كل جانبٍ محاولًا اقتناص أي فرصة للحياة تلوح أمامي. فمن تحت "بلكونة" إلى أخرى. وأجري، والكل يجري. لم أكن وحدي في الشارع بل كان هناك سيل من أناسٍ يملؤهم اللاشيء. سيل دفاق من الخوفِ يجري. حاولتُ أن أتصيدَ مقطعًا أدبيًا يليقُ بروايتي فالإحساس كان على أشدهِ والقشعريرة لم تتوقّف. جربتُ النظرَ إلى عيونِ الناسِ فلربما رأيتُ قصّةَ وطن ضائعٍ بين آهات الوجع. لم أرَ شيئًا. كان الفراغ سيّد اللحظة.

كانت كل النظرات فارغة؛ الناس تجري دون أن تنظر خلفها. خرجت الناس ولم تحمل معها سوى أوراقها الثبوتية. كأنني أعيش القيامة. فترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن كرب يومئذٍ عظيم. السيارات تغادر فارغة ولا أحد يتوقّف ليساعد ماشيًا على جانب الطريق. لحظة؛ لماذا أشعرُ بأني رأيتُ هذا قبلًا؟! أشعرُ بأني لعنتُ هذه اللحظة قبًلا. مهلًا مهلًا. يا كاتب التاريخ مهلًا إني أراك تُكرّر ما كتبت. أتراني أعيش نكبة ثانية. يا كاتب التاريخِ مهلًا إني أراكَ تُكرر ما كتبت، فالنكبة صارت نَكبتين. لم يكن مشهدًا أُحسدُ عليهِ بل تمنيتُ أني لم أعشهِ. كان مَشهد النكبة الأولى والنزوح الثاني يتكرّر أمامي. كنت أنا نازحًا أيضًا. كم أكره نفسي. تبًا للحرب وأسيادها.

أكملتُ المَسير مُهْمِلًا كل ما حولي غارقًا في مُحيط أفكاري قاصدًا بيتَ أحد أصدقائي والذي يقطنُ في منطقة بعيدةٍ عن أجواء الحَرب، لكنْ؛ ليسَ لوقتٍ طَويل. أكملتُ طَريقي مُتجاهلًا الحربِ كأني ذاهبٌ إلى رحلة مدرسية أو دوامي الجامعي العادي. تجاهلتُ كل شيءٍ ووضعت سماعات الأذن وشغَّلتُ أنشودة قديمة لمحمد الشاقلدي اسمها "على أمل". علَّها تُحيي شمعة الأمل التي بدأت تخبو حينما رأت كل الفراغ الذي يحيط بها قبل أن يبتلعها.

في مشهدِ النزوح، لم أخرج أنا. فأنا الذي اعتدت عليهِ وطن. أما أنا الذي خرج يومها كان شخصًا آخر. تركت نفسي في منزلي وخرجتُ، وما زلتُ حتى الآن أشعر وكأنني في حلمٌ أو كابوسٌ لا أدري متى ينتهي. أخبروني بربّكم. متى ينتهي؟


فصل المنفى
الجُمعة: 18/07/2014
الساعة: 10:00
طيور الأسى تنهش قلبيَ المُشتاق. وغيلان الوحدة تأكلني وسط قومي. أنا؛ من أنا؟ أنا نكرة تداعت عليهِ المآسي التي ما أبت إلا أن تجيء جمعًا. اليوم يوم الموتِ بتوقيتِ النزوح؛ يوم الفقدِ بتوقيتِ الحياة. أجلسُ أداعب شعرَ رأسي. أبحثُ عن شيءٍ ينسيني همومي وما رأيت. أبحث عن وطنٍ تاهَ منّي في طريق النظرات الفارغة التي ما أبرح أتذكرها فتصيبني برعبٍ أكثر من رعبِ ليلةِ الموت المُحتّم. هل حقًا مرّوا بكل هذا قبلًا. هل حقًا هكذا كان شعور جدّي حينما غادرَ يافا؟ هل غادرها عنوةً حتى دون أن يملك مُتّسعًا من الوقتِ لينظر نظرة أخيرة على بيارتنا الولود؟

جلستُ أقلب أبواب الذاكرةِ لعلّني أحظى بذكرى حُبٍ تمتّعني قليلًا. حُبي كتبي. لم أتذكّر من بين أطنان الذكريات لديّ إلا قراءتي لرواية (بينما ينام العالم) للكاتبة الفلسطينية سوزان أبو الهوى، وهي رواية تبيّن حديث النكبة والنكسةِ بتفصيلهِ. نعم لقد رأيت هذا المشهد تمامًا في هذه الرواية، بكيتُ حين قرأتها. ولكن يا لها من سخرية حين عشتها.

نحن نتأثّر بالقصة المكتوبة. ونصمتُ حينما نراها حقيقة. ينتابنا الصمت. نضيع بين التفاصيل التي فوّتها الكاتب. هذه التفاصيل. تقتل حاسّة الشعور. ربّما يكتب لك الكاتب عن الفراغ في عيونهم وأرواحهم وشعور الناس بفقدهم الهُوية. لكن لا يمكن أن يوضّح لك الصورة حدَّ الحقيقة. الحقيقة التي تقتلك.

ها أنا أصلُ بيتَ صَديقٍ رحّب بي. الصديق الأوّل الذي طرأ على ذاكرتي حينما فكّرتُ بالنزوح. ويا لهُ من نزوحٍ. علمت أني ببيتِ أخ أحد المعتقلين وثاني صاحب أعلى محكومية في تاريخ الاحتلال. بيت أخ حسن سلامة، حيث تقيم أمّه. لوهلةٍ ظنّ صديقي أن هذا سيخيفني. لم يعلم هُو مقدار خوفي من تلك النظرات. مكثتُ هناكَ وحدي ولأوّل مرة مُجبرًا بَعيدًا عن أهلي. يقول صَديقي: البيت بيتكْ. وأنا أرى أن كل الدنيا الآن غربتي.ضعتُ. كان يوم الجُمعة. نسيتُ. الحرب أفقدتنا الإحساس بالوقتْ. نِمتُ الساعة العاشرة تعبًا فقد مشيتُ قرابة خمس كيلومترات حتى وصلتُ هنا وأثقلتني هموم اليوم فلم أصح إلا بعد سبع أو ثماني ساعات. كانت المرّة الأولى التي أضيع فيها صلاة الجمعة منذ عقدٍ تقريبًا. تبًا للحرب.

فِي المنفى، لا يمرّ الوقت إلا وأنت نائم. تودّ أحيانًا لو تقوم بدفع عقارب الساعة لتمشي. ولتمزق أشهر التقويم لتجري ولكن لا سبيل لذلك. في الغربة الإجباريةِ جُرح لا تكفيهِ كل مواساة العالم، وعليكَ فقط أن تنام كَثيرًا لتحاول أن تنساه. النوم جنّة المجروح. تود لو تخبر صديقكَ بأنك تعدّ الأيام لحين عودتك. لكن الأيّام لا تريد ذلك.

لم يكن لرمضان هذا العام نكهة من أولهِ حينما كنت في بيتنا، وتمامًا بعدَ استشهاد الطفل محمد أبو خضير. لم يعد هناك لذة أو شيء خاص. أصبح كغيرهِ. فما بالي اليوم وأنا في بيتِ غريبٍ أتسحّر وأفطر بهِ، وفي كل لقمة أذوق – غربة – لم أتمكّن من الشعور بأي شيء. مُحال أن أشعر بطعم أي شيء وقد أخذتُ على ما تعدّ لي أمي لمدّة واحد وعشرين عامًا ثم فجأة. يختفي. تُرى كيف تشعر أمي الآن؟

التنقل بين ذكرى وذكرى. وبين خيال شخصٍ إلى ظل آخر في عقلٍ يتداعى وينهار ولا يقوى على الانتظار. إييه يا وجع.

ليس هذا ما يوجع نفسكْ. ولكن كلّما مرّ ببالك طيف حبيبٍ لك ثم تسأل: (كيف يشعر الآن؟) ثم تحاول الاتصال بهِ للمرّة المائة، ولا مُجيب. تضع كل الاحتمالات في رأسكْ. هل مات؟! هو في المنطقة التي كانت بها المجزرة. هل تراه هرب؟ أم أنه كان مع الصاعدين؟

ثم تعود لتسأل نفسك حينما ترى الشريط الإخباري وفيهِ أن عدد الشهداء قد ناهز الخمسمائة. تسأل: هل حقًا هؤلاء اختاروا الموت؟ هل حقًا كان هؤلاء بدون كرامة وبانتظار حتفهم ليعيد لهم كرامتهم المسروقة؟ هل حقًا لو خيِّروا بين الموت والحياة سيختارون الموت؟! إذن لماذا يخرج مسؤول فلان ومسؤول علان يكذب باسمهم يقول بأننا نحن من اخترنا الموت؟ أو نحن نتقن فن الموت؟! نحن نتقن فنّ الضحيّة. نتقن أن نكون من نُضربُ دائمًا وننتظر من يأتي ليغنّي على جرحنا ويعيشْ. ونحن نموت. تبًا للشعب، وليحيا أسياد الحرب.

تضيقُ بِي أنفاسي، ولا تحملني قدماي. أقضي يومي جالسًا في غرفةٍ في آخر البيت ولا أغادرها أبدًا إلَّا لدخول دورة المياه أو الوضوء ثم أعود. الغربة سجن. وكما نتعلمّ في السجن أشياء كما قال أيمن العتوم ومن قبلهِ المفكّر علي عزت بيغوفيتش بما معناه أن السجن جنّة المعرفة. طبعًا وأنت مُجبر عليهِ. تعلّمتُ في غربتي هذه عدّة أشياء أو لنسمها ألعابًا. تعلمتُ الشطرنج وقد كان ضمن أحلامي أن أتقنها. وللمفارقة لم أتقن لعبة الملوك إلا وأنا بيدق في لعبة أكبر. كلّنا في الحرب بيادق للتضحية ليحيا الملك. يوجّهنا السيّد. ونحن في سبيلهِ قبل الوطن نموت.

يقولون إن أفضل طريقة لقتل الموتِ هي تجاهلهُ. كنت أجلس وصديقي بلامبالاة الفلسطيني المعهودة نلعب الأوراق أو "الشَّدَّة " كما في العامية وإذا سمعنا صوتَ قصفٍ لا نوليهِ انتباهًا. أصبح القصف شيئًا عاديًا، وإذا لم نسمعهُ ذكّرتُ صَديقي بهِ سائلًا إياه أن توقف القصف حقًا أم أننا ومن انشغالنا لم نسمعه؟

الخوف صار لا مبالاة. والقصف صار طقسًا من طقوسِ الحياة. اعتدنا عليهِ. نخاف أن نعتاد الموت لاحقًا. والعادة لا تعني الرضا. لقد اعتدنا أن يُدهس فوق رؤوسنا يومًا. لكن هذا لا يعني أننا راضون عن هذا. سيأتي اليوم الذي نردّ لكل من فعل بنا هذا جميلهُ. "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون".

تنفس. حتى هواء الغربة مُختلف حين لا تشعر بريح بيتك. أمك. أبوك. إخوتك. بمُجرّد التفكير بالريحِ، تذكرتُ موقفًا مُضحكًا لي وأنا في طفولتي. حيثُ إذا ما خلدَ إخوتي قبلي للنوم. أذهب كل لحظة لأضع أذني عند أنوفهم لأتأكد أنهم ما زالوا على قيد الحياة. أرأيتم؟ من طفولتي لم أرد أن أعتاد على فكرة الفقدِ لكنها أبتْ إلا أن تلاحقني. وتلاحقني. لتكون في حد ذاتها فصلًا آخرَ من فصول قصّتي "فصل الفقد".

ينامُ صديقي باكرًا وأبقى أنا أتأمل الحائطْ فوقي. أو أحاول الكتابة على حاسوبهِ بضعَ وجعٍ. فالكتابة نفس الكاتب الأخير، نحن نختنق من الحياة فتسعفنا الكتابة. يبدو أن التعبَ ينال مني أخيرًا، والجرح الغائر فيَّ يود لو يدعوني للنوم؛ فالكتابة تفتح الجرح كلّما همَّ بالاندمال. أغلق عيني. أسبحُ في شاطئ الليل المُشتعل. لا أدرك نفسي حتى أغرق فِي مُحيط النوم ثم وأنا أغني لنفسي أهدهدها (نم يا حبيب القلم نم، أهديك زوجًا من حمام). أينكِ أمي. أريدكِ الآن.

المساهمون