Skip to main content
فشل الإصلاح وحتمية التغيير في ليبيا
أنس الفيتوري
مسيرة في طرابلس دعماً لثوار فجر ليبيا (19سبتمبر/2014/أ.ف.ب)

تطلق الثورة لأبنائها العنان لإعادة التفكير في أبجديات الحركة السياسية والميدانية التي تحمي مسار التغيير الجذري في ليبيا، والوقوف في وجه المخططات الإقليمية والدولية، مع النخبة المنشقة التي ترمي إلى احتواء التغيير، وتطويعه ضمن رؤية دول الاعتدال (مصر، السعودية، الإمارات).

وعلى الرغم من أخطاء وقعت، نتيجة التغيير وتكاليفه الباهظة، إلا أن الاجتهادات الميدانية، عسكرية أم غيرها، مازلت تحول دون عودة دولة الاستبداد من جديد، فما فتئت دول إقليمية ودولية تبذل قصارى جهدها، لفرض نموذج الدولة الأمنية والعسكرية، في ليبيا، على غرار ما حصل في الجارة مصر.

ويمكننا استقراء فكر التغيير الجذري، ومقاومته الاستبداد بالوسائل الشرعية، إما بالاطلاع على الاجتهادات الفقهية للشيخ، الصادق الغرياني، الذي رسم منهجاً جديداً في التعاطي مع تطورات الأحداث لطلبة العلم والثوار، أو برصد المقاومة العسكرية من الثوار للحركات الانقلابية، سواء في الغرب بعملية فجر ليبيا، أو في الشرق بمجلس شورى ثوار بنغازي.

وإذا ما استمر تطور الفتوى الشرعية والحركة الميدانية، فإننا سنشهد ميلاد منظومة جديدة، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، بديلة من المنظومة السابقة، وهذا الأمر سيعني دمج الأصوات الإصلاحية، الساعية إلى ترميم المنظومة السابقة في مشروع أكبر، لتتحول فيه إلى ترس في محركٍ، يدفع صوب التغيير الجذري بوسائله المتعددة والمتنوعة، التي لا تقتصر على الحوار والتنازلات والتوافق، وسيلة إلى تحقيقه.

لم تكن دعوة التغيير الجذري خياراً لفئةٍ أو مكونات اجتماعيةٍ أو ثقافية، بل كانت مساراً إجباريّاً، حينما عجز النظام أن يجيب عن أسئلة الحرية والعدالة ومكافحة الفساد، وفشل مشروعي ما سمي بالإصلاح على مرحلتين مختلفتين، في تلبية طموحات الشعب. الأولى سبقت الثورة وسميت مشروع الغد، والثانية بعدها حين اكتفى الثوار (بترقيع الثوب البالي) عن طريق التوافق الذي ترفضه هياكل المؤسسات والنظام العام، فنص في الإعلان الدستوري على الحفاظ على مؤسسات النظام السابق، بدعوى إصلاحها.

واللافت أن العمليات العسكرية التي جرت بعد عملية الكرامة، منتصف مايو/أيار الماضي، شارك في قيادتها ثوار خاضوا تجربة العمل السياسي، من خلال المؤتمر الوطني، برجاء تحقيق التغيير بالطرق السلمية والحوار تحت قبة البرلمان، لكن تسارع الأحداث فرض عليهم التوجه إلى ساحة المعركة، لقطع الطريق على مخططات الاستيلاء على السلطة، وإجهاض التغيير.

الدعوة، اليوم، مفتوحة لمراجعات جديدة، وفق متغيرات الواقع لكل الجماعات والأفراد، بغية تحقيق تغيير شامل، فالمنظومة السابقة لن تقبل مسألة تطبيق الشريعة التي تشمل إعادة النظر في النظام الاقتصادي، ومحاربة الرأسمالية المتطفلة على الدولة، ومكافحة الفساد وعدم قبولها التغيير، ليس قراراً، بل هو سياق يمنع أبناء الجيل السابق من قبول أي دعوة للتغيير، تنطلق من البناء؛ لأنها تقوم على التوزيع والمحاصصة غير العادلة، وإهدار الموارد البشرية والمالية.

ربما يجد بعضهم دعوة التغيير الجذري مجرد تنظير غير واقعي، أو تهوراً غير مدروس، لكن هذه الدعوة ليست بدعة أتقوّلها؛ بل هي حقيقة غالية الثمن، عبّر عنها المجاهدون الذين خاضوا تجربتي العمل السياسي والعسكري، ثم عقدوا العزم على الرباط في الثغور، ومنهم عضو المؤتمر الشيخ، محمد الكيلاني، رحمه الله، حيث سجل في آخر ما كتب دعوة إلى تنظيم الثوار، وبناء مؤسسة تحفظ مكتسبات التغيير.

الفقه السياسي الذي يؤصل لحتمية التغيير ناتج عن أمرين، أولهما استنفاد الثوار لكل الوسائل في سبيل تحقيق التغيير من خلال العمل السياسي، وفشل ما يصطلح عليه بالإصلاح. والثاني الموروث الشرعي الذي يفتح الباب واسعاً أمام اجتهادات فقهية سياسية، تقوم على التمسك بمبدأ تطبيق الشريعة والجهاد في سبيلها، وفق رؤية حضارية.

ولعل من أهم ما ينجز هو بناء قوة عسكرية من الثوار، تحمي مسارات التغيير، ولا أشك أن الشيخ المجاهد، محمد الكيلاني، كان مصيباً فيما كتب، قبل استشهاده عن توحيد الثوار، فقد كان أقرب إلى التجرد والحرص على تحقيق أهداف الثورة، وهذا ما يوافق بعض آراء عند السلف المهتمين باجتهادات المجاهدين، حيث نقل عن سفيان بن عيينة قوله: إذا رأيت الناس قد اختلفوا، فعليك بأهل الثغور.

لا يمكن لأحد أن يتصور كيف مرّت تجربة الحكم في ليبيا في مرحلة ما بعد الثورة. وكيف ضاق النظام ذرعاً بوجود رؤية أخرى، وشخوص جديدة، تحاول تلمس الإجابة عن أسئلة العدالة ومكافحة الفساد، بتطبيق الأحكام الشرعية، وتحقيق مقاصد الشريعة. هناك منطقان مختلفان لا يمكن أن تجري بينهما أي توافقات، بسبب اختلاف القواعد والمرجعيات (الهوية)، هما ما يسمى إصلاح المنظومة الفاسدة والتغيير الجذري.

صفوة القول: الثوار أمام استحقاق تاريخي، فهم بصدد إنشاء منظومةٍ سياسيةٍ واجتماعية وإعلامية واقتصادية جديدة، تحتاج إلى عمليات معقدة من البناء، تستصحب قيماً وأخلاقاً شرعية، وتتطلب نضجاً أكبر في المجال السياسي، يكافئ ما أنجزه الثوار عسكريّاً وأمنيّاً، وفق مبدأ تطبيق الشريعة.