فرنسا ومصير الثورة الصفراء

فرنسا ومصير الثورة الصفراء

16 ديسمبر 2018
+ الخط -
يقلِّب علماء الاجتماع وكتّاب الأعمدة في الصحف كتبَ كارل ماركس، وجورج هيغل، بحثاً عما يفيدهم في تقسيم المجتمع إلى طبقات، بعد أن هبَّت في فرنسا الرياح الصفراء التي ملأت شوارع باريس في عطلات نهاية الأسبوع، وتحولت بعض التجمعات الكبيرة إلى جولةٍ من العنف، والتحطيم، والسرقة، أوقفت من أجلها الشرطة مباريات فريق باريس سان جيرمان، وأجلت الاستمتاع بمراوغات نيمار وأهداف مبابي، للحد من الأخطار المنفلتة من الحركة الجماهيرية التي يعتبر كثيرون أنها نتجت عن طبقةٍ اجتماعيةٍ اختارت الرداء الأصفر، لتعبر سياسياً عن مطالبها، على الرغم من أنها غير خاضعة لأي حزب سياسي، وغير معبأة بشعاراتٍ أو عقائد، بل تقودها غريزة اقتصادية لممارسة فعل سياسي تجاه رئيسٍ لديه إشكالية نفسية، ذات أواصر قربى مع الملك أوديب صاحب القصة الشهيرة.
الرئيس إيمانويل ماكرون الذي انفلت من طبقات الأحزاب مشكلاً تياراً جديداً ذا اتجاه يميني بخلفيةٍ يساريةٍ، لا يجد غضاضة في فرض مزيد من الضرائب، خصوصاً على البترول، على الرغم من انخفاض أسعاره العالمية، ويرغب في تمويل برنامجه الإصلاحي من جيوب المتقاعدين ومستخدمي السيارات الخاصة، ليستيقظ في اليوم التالي على مشهد شوارع مليئة بغاضبين من صغار المثقفين، يقفون جنباً إلى جنب مع متقاعدين كثيرين وبعض أصحاب المشاريع الصغيرة، وسكان الضواحي والأرياف ممن لديهم اطلاع على محتويات شبكة الإنترنت. شعَرَ هؤلاء، وبتزامن مضبوط، أنهم يتعرّضون للسرقة والاستغلال، ما جعلهم طبقة واحدة، فخرجوا يصرخون بغضب، طالبين من الرئيس سحب قوانينه الضرائبية فوراً، وذهب بعضهم إلى الصراخ فيه أن ارحل.
من المهم البحث في خلفية هذا الحشد الكبير الذي لعبت تكنولوجيا التواصل المجتمعي دوراً مهماً في تجميعه، وإعطائه اللون الأصفر الفلوريسانتي، واختارت له العناوين الرئيسية للحركة، ليشكل تهديداً جدّياً للمؤسسة السياسية، وهو قادر على إزاحتها أو إصابتها بالشلل من دون القدرة على الحلول محلها.
لا تشبه السترات الصفراء الفرنسية حركة التمرّد في العراق التي امتدت فترة طويلة، وكان الفساد السياسي والاقتصادي محرّكاً لها. ولا تبدو قريبة من مصوتي "بريكست" البريطانيين ذوي التوجه المحلي، الراغبين بالبقاء بعيدين عن الاتحاد الأوروبي. كما لا تبدو ذات علاقة قوية بالمعجبين بدونالد ترامب الذي يطرح شعار "أميركا أولاً"، ولا هي مزيجٌ من ذلك كله، على الرغم من أنها ذات طبيعة مجتمعية بإشكالياتٍ مشابهة وتداخلات اقتصادية وقومية، وهي كذلك لا تمت بأي صلةٍ للحركة الطلابية الفرنسية التي نشبت في أواخر الستينيات، وكانت نتيجتها تخلي شارل ديغول عن السلطة.
الزخم الأصفر الذي بدأ قوياً في الأسبوع الأول بأكثر من ربع مليون متظاهر أخذ بالانخفاض، حتى قبل أن يتراجع ماكرون عن ضرائبه، ويقدم وعوداً ببعض الزيادات والإغراءات المالية، والاعتصامات مرشحةٌ لمزيد من التناقص في الأسابيع المقبلة، في ضوء تباين الخلفيات التي يأتي منها مرتدو السترات الصفراء، فهي خليطٌ يمينيٌّ ويساريٌّ وقوميٌّ ومعارضٌ للهجرة ومجموعة ممن ليس لديهم موقف، ولكن لديهم سيارات زادت الضرائب المفروضة على وقودها.
الحركة الصفراء حشد مجتمعي قصير النَفَس، يمكن أن ينفضّ بسرعة، بمجرد أن يطرح شعاراته ورغباته، وقد يعتبر أن مهمته قد أنجزت، بعد أن قدَّم مادة إعلامية ساخنة مع حصة تلفزيونية دسمة، تعرض الحشود التي سدّت الشوارع، ويمكن أن يكتفي أفراده بإدانة العنف الذي حصل على هامش تظاهراته، وقد يقبلها ضمنياً، سيما أن الحركة استطاعت أن تصل به بسرعة إلى تحقيق بعض المطالب التي طرحها. ويمكن أن تجد قطاعات كبيرة ممن شاركوا في تجمعات السترات الصفراء في خطاب ماكرون تراجعاً مرضياً، وهو الرجل المعروف بتشبثه بمواقفه. وستتضح الصورة بأن هذا الاتحاد الأصفر ظرفي، ذو تماسك ضعيف، لكن قوته الابتدائية الكبيرة كانت قادرة على التغيير، وعلى إثارة أسئلة جادّة كثيرة.