فرصة ذهبية لأرى نفسي

فرصة ذهبية لأرى نفسي

20 سبتمبر 2016
(بولانيو)
+ الخط -

روبرتو بولانيو؛ بات هذا الاسم لامعاً في عالم أميركا اللاتينية الأدبي اليوم. فالكاتب التشيلي كان معروفاً بالأساس خارج القارة بفضل الجهد الذي بُذل لترجمة أعماله وخصوصاً بفضل الاعتراف به ككاتب في إسبانيا أين عاش سنوات حياته الأخيرة.

وُلد بولانيو في العاصمة التشيلية، سانتياغو، سنة 1953. وفي 1968 هاجرت أسرته إلى المكسيك، لكنه حين بلغ العشرين قرّر العودة إلى تشيلي، وهو قرار ذو خلفية سياسية لمساندة نظام الرئيس الاشتراكي المنتخب (منذ ثلاث سنوات وقتها) سلفادور أليندي، لكن بعد بضعة أيام من وصول بولانيو إلى تشيلي حصل الانقلاب العسكري الدموي (11 أيلول/ سبتمبر) بقيادة أوغستو بينوشيه المدعوم أميركياً.

بعد قضاء ثمانية أيام في أحد المعتقلات، عاد بولانيو إلى المكسيك، وفي عام 1977 هاجر إلى إسبانيا واستقر في برشلونة إلى أن رحل عام 2003. كتب بولانيو الكثير وعاش الكثير. أسّس مع صديقه الشاعر ماريو سانتياغو (1953-1998) في مكسيكو سيتي، مجموعة الـ "الواقعية التحتية" Infrarrealismo للشعر، تحت شعار "تفجير دماغ الثقافة الرسميّة".

بالإضافة إلى الندوات الشعرية وبعض المنشورات التي اهتمّت بنشر قصيدة النثر البعيدة عن قوالب شعر اللغة الإسبانية. اشتهرت المجموعة، والتي كانت مؤلفة من شعراء مكسيكيّين وتشيليّين، بعمليّاتها "التخريبيّة" ضد النشاط الثقافي الرسمي في البلاد، ورمزه آنذاك الشاعر أوكتافيو باز، صاحب "نوبل للآداب" (1990). فكان "الواقعيون التحتيون" يحضرون الندوات والورشات الأدبيّة الرسمية ويعيقون مجراها بواسطة مقاطعة الأدباء أثناء مداخلاتهم.

مواقف وأساليب بولانيو المعادية للثقافة الرسميّة والسائدة في المكسيك وأميركا اللاتينية جعلت من مسيرته الأدبية حافلة بالرفض من قبل دور النشر والجوائز الأدبية الكبيرة حتى عام 1998 حين حصلت روايته "محققون في البرّية" على جائزة "هرالدِ دي نوفيلا" في إسبانيا من دار النشر "أناغراما"، وبعدها جائزة "رومولو غايّيغوس" في فنزويلا، وهما من أهم الجوائز الأدبية في اللغة الإسبانية، ممّا أوصله إلى النجومية وإلى إعادة نشر أعماله وترجمتها على نطاق عالميّ واسع.

عربيّاً، نعرف بولانيو عن طريق ثلاث ترجمات: اثنتين صدرتا عن "دار التنوير"، وهي "تعويذة" (ترجمة أحمد حسان، 2013) و"ليل تشيلي" (ترجمة عبد السلام باشا، 2014)، ورواية "نجم بعيد" (ترجمة علاء شنانة، 2015) عن "دار نينوى". وبالرغم من الشهرة المفاجئة، فإن مسارات بولانيو الأدبية بقيت كما هي: شخصيّات رواياته هم غالباً أفراد يعيشون على خط التماس بين الحياة والأدب، تتجاذبهم الشجاعة والموت وعوالم الكتب والعنف.

النصوص التالية مأخوذة من نصوص جُمّعت ونُشرت من قبل ورثة بولاتنيو، وفيها يتكلّم عن نفسه وعن ولده، لاوتارو. النص الأوّل، "تمهيد: بورتريه ذاتي"، هو عبارة عن نص كتبه بولانيو عن نفسه بطلب من لجنة تحكيم جائزة رومولو غايّيغوس بعد منحه إيّاها (وورد في كتاب "بين قوسين"، 2004). أما القصائد الأخرى فهي وردت في كتاب "الجامعة المجهولة"، صدر 2007).


تمهيد: بورتريه ذاتي
وُلدتُ في عام 1953، فيه مات ستالين وديلان توماس. في عام 1973، قضّيت ثمانية أيام في أسر العسكريّين في بلادي بعد أن انقلبوا على الحكم القائم، وهناك في الجمنازيوم حيث زجّوا في المعتقلين السياسيين وجدتُ نسخة لمجلة انكليزية فيها تقرير مصوّر عن منزل ديلان توماس في ويلز. كنت أظن أن توماس مات فقيراً، لكن منزله بدا فخماً، كمنزل مسحور في وسط غابة. لم أجد أي تقرير عن ستالين.

في تلك الليلة حلمت بستالين وتوماس: رأيتهما الإثنين في بار في مدينة المكسيك العاصمة، يجلسان إلى مائدة صغيرة ودائرية، مائدة تصلح لمصارعة كسر اليد، ولكنهما لم يتصارعا باليدين بل تسابقا في ما بينهما في من يتحمّل شرب الخمر أكثر.

كان الشاعر الويلزي يشرب الويسكي وكان الديكتاتور السوفييتي يشرب الفودكا. ولكن، بينما كان الحلم يأخذ مجراه، الوحيد الذي كان يدوخ أكثر، الذي كان يقترب من حفة الغثيان، كنت أنا. إلى هنا في ما يخص ولادتي.

أما فيما يخص كتبي، أقول لكم بأني نشرت خمس مجموعات شعرية، مجموعة قصصية، وسبع روايات. لا أحد تقريباً يعرف قصائدي، ولا عيب في ذلك. وكتبي النثرية تحظى بعدد من القرّاء المخلصين، ولا أستحق ذلك.

في "نصائح من تلميذ جيم موريسون إلى قارئٍ مهووس في جيمس جويس" (نشرت عام 1984 وهي رواية مشتركة لي ولأنطونيو غارسيا بورتا)، أروي عن العنف. في رواية "حلبة التزلج" (1993)، أروي عن الجمال وكيف يدوم لوهلة من الزمن حتى نهايته والتي هي، عادة، كارثية.

في "الأدب النازي في أمريكا" (1996)، أروي عن البؤس وسيادة الممارسة الأدبية. في رواية "نجم بعيد" (1996)، أحاول معاينة، ولو بتواضع، موضوع الشر المطلق. في “محققون في البريّة" (1998) أروي عن المغامرة، وكيف المغامرة، دائماً، تكون مليئة بالمفاجآت.

في رواية "تعويذة" (1999)، أحاول تزويد القارئ بصوت حانق لامرأة من الأوروغواي موهبتها أن تكون امرأة من اليونان. أُسقط روايتي الثالثة، "مونسنيور باين"، من قائمة أعمالي، فموضوعها من الطلاسم ما يتعذّر حل رموزه.

مع أني أعيش في أوروبا منذ عشرين عام، قوميّتي الوحيدة هي التشيليّة، وهذا لا يشكّل عقبة أمام شعوري بأني، حتى النخاع إسباني ولاتينوأمريكي. خلال مجرى حياتي عشت في ثلاثة بلدان: تشيلي، المكسيك وأسبانيا. مارست تقريباً كل المهن الموجودة لكسب القوت، باستثناء ثلاث أو أربع يرفض ممارستها أي مرء يحترم نفسه بعض الشيء.

زوجتي اسمها كارولينا لوبيس وابني اسمه لاوتارو بولانيو. الاثنان كاتالانيان. في كاتالونيا، أيضاً، تعلّمت كيف أمارس ذلك الفن العسير، أي الصبر. أشعر بالسعادة أكثر وأنا أقرأ مقارنة بالوقت الذي أكتب فيه.
(1999)


مسيرتي الأدبية
جوابُ رفض من "أناغراما"، "غاريخالبو"، "بلانيتا"، وبكل تأكيد من "ألفاغوارا"، "موندادوري". غير معنيّين من "موشنيك"، "سييس بارّال"، "ديستينو"… كل دور النشر… كل القرّاء…
كل مديري المبيعات…
تحت الجسر، وهي تمطر، فرصة ذهبية لأرى نفسي فيها:
مثل ثعبان في القطب الشماليّ، ولكنّي أكتب.
أكتب وولدي على حضني.
أكتب حتى هبوط الليل
وحولي ضجّة من الشيطان، من الألف شيطان
الذين سيأخذوني معهم إلى الجحيم،
ولكنّي أكتب.
(أكتوبر 1990)


قصيدتان إلى ولدي لاوتارو:

اقرأ الشعراء القدامى
اقرأ الشعراء القدامى، يا ولدي
ولن تندم
فبين خيوط العنكبوت والخشب البالي
من سفن جانحة على ساحل المطهر
ستجدهم هناك
ينشدون!
تافهون وبطوليون!
الشعراء القدامى
يخفقون وهم على مائدة القرابين
رُحّل ذبيحة مشقوقة ومُقدّمة
للا شيء
(لكنّهم لا يعيشون في اللا شيء
بل في الأحلام)
اقرأ الشعراء القدامى
وحافظ على كتبهم
هذه هي إحدى النصائح القليلة
يستطيع والدك منحك إيّاها


المكتبة
كتب أشتريها
في فترات تقع بين الأمطار الغريبة
وبين فترة الحر
التي تعود إلى عام 1992
كتبٌ قرأتُها
وكتبٌ لن اقرأها أبداً
كتبٌ ليقرأها ولدي
إذن، فهي مكتبة لاوتارو
وعليها المقاومة
مقاومة الأمطار
ومقاومة فترات الحرّ الجهنمي في المستقبل
إذًا فالشعار هو كالتالي:
أيّتها الكتب الصامدة، قاومي!
اعبري الزمن كالفرسان المتجولين
واحمي ولدي من الغموض الآتي
(1994)


* تقديم وترجمة عن الإسبانية: شادي روحانا

المساهمون