فخامته بكامل جرائمه

فخامته بكامل جرائمه

05 مايو 2014

سمير جعجع يتحدّث إلى سعد الحريري (أرشيفية)

+ الخط -
لم يكن ترشيح سمير جعجع لمنصب رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة مدعاةً للانزعاج، بالنسبة لي، بقدر ما كان مدعاةً للذهول والسخرية، لأنّه ترشيحٌ ما كان له أن يتم، لو لم تبلغ الحالة اللبنانيّة حدّها الأقصى من الخراب: ذلك الخراب الّذي ما عاد يصلح للقراءة والتحليل، ولا عاد يخبّئ في ثناياه أيّ مفاجآت تثير الفضول؛  فـ"الورقة البيضاء"، الّتي حصدت 52 صوتاً في الجولة الانتخابيّة الأولى، ليست أقلّ تعبيراً عن الخراب من الأصوات الـ48 الّتي منحها نوّاب تكتل 14 آذار لمرشّحهم العتيد.
فاز سمير جعجع فوزاً معنويّاً ساحقاً بمجرّد قبول البرلمان ترشيحه لرئاسة الدولة. فذلك، بحدّ ذاته، تبييضٌ لملفّه الإجراميّ المعروف الّذي أُدين بسببه، وسُجن إحدى عشرة سنة. وعدا عن ذلك، فإنّ عدم وجود منافس حقيقيّ له يعني أنّه ليس ثمّة رفض حقيقيّ لوجوده في هذا الموقع السياديّ الحسّاس.
إذن، ما الغريب في الأمر؟ جعجع ليس المجرم العربيّ الوحيد الّذي يمكن أن يصل إلى سدّة الرئاسة، ولبنان ليس البلد العربيّ الوحيد الّذي يقوده قاتل. وكما قال وليد جنبلاط، فإن زعماء العصابات في الحرب الأهليّة صاروا قيّمين على الدولة اللبنانيّة، لكنّ ما يمتاز به جعجع أنّه ذاهب إلى الرئاسة بكامل جرائمه الواضحة، وبتواطؤ برلمانيّ مفضوح بين كلّ الفرقاء، سواء منهم مَن دعمه في السرّ والعلن، أو مَن تردّد في اتّخاذ موقف حاسم منه، أو مَن عارض ترشيحه بقوّة.

اعتُقل جعجع بعد اتّهامه بتفجير كنيسة "سيّدة النجاة"، سنة 1994، وكان متّهماً بالتعاون مع الجيش الصهيونيّ في ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا، في سبتمبر/ أيلول 1982، ثمّ حُكم بالإعدام لإدانته بارتكاب جرائم اغتيال الرئيس رشيد كرامي، وطوني فرنجيّة وزوجته وابنته، وداني شمعون وزوجته وأطفاله، وقائمة طويلة من الضحايا الّذين لا يتّسع المجال لذكرهم. لكنّ الرئيس إلياس الهراوي قام بتخفيف الحكم من الإعدام إلى السجن مدى الحياة؛ ثمّ قام "البرلمان"، في عام 2005، بإصدار عفوٍ تامٍّ عنه ـ قيل إنّ السفير الأميركيّ، جيفري فيلتمان، هو الّذي كان وراءه، وعاد، على أثره، إلى الساحة السياسيّة، وكأنّه لم يقترف جرماً قطّ. إنّ  البرلمان، إذن، هو الّذي برّأ جعجع بعدما دانه القضاء، ما يعني أنّ التواطؤ لصالحه كان منذ البداية، وأنّ البرلمان شريك له في الجرائم الّتي ثبت أنّه اقترفها ضدّ الدولة ورموزها وناسها.
والحقيقة أنّ حالة جعجع لا تختلف عن المشهد العربيّ العامّ الّذي يتحوّل فيه المجرم إلى زعيم، والزعيم إلى مجرم، وتحدث فيه الجريمة بتواطؤ تامّ من الجميع، مثلما جرى في رواية ماركيز الشهيرة "قصّة موتٍ مُعلن"، إذ لا فرق، باعتقادي، بين وجود مجرم، مثل بشّار الأسد، في رئاسة الدولة السوريّة ووجود مجرم، مثل سمير جعجع، في رئاسة الدولة اللبنانيّة؛ ولا فرق بين مَن يؤيّد الأسد ليعارض جعجع، ومَن يؤيّد جعجع ليعارض الأسد. والخطير، هنا، هو أنّ صعود الجريمة واحتلالها المشهد كاملاً على المستوى الرسميّ، موازٍ تماماً لصعود الإرهاب والتطرّف على المستوى الشعبيّ. ولذا، فإنّ الدفاع عن جريمة النظام، مهما تكن الذرائع، هو بالضرورة الوازع الّذي يحرّض الإرهاب، ويقدّم له المسوّغات.
وإذا كان ترشيح جعجع ليس أكثر من مناورةٍ انتخابيّة، كما يرى معظم المحلّلين، فإنّه، باعتقادي، مناورةٌ لا تخلو من الدلالة. إذ إنّ الإتيان بجعجع يضمر قدراً كبيراً من التهديد لفريق 8 آذار، وذلك ما عبّر عنه وليد جنبلاط بقوله إنّ "وصول سمير جعجع، أو ميشال عون، إلى الرئاسة يعني الدعوة إلى حرب أهليّة جديدة، وإنّه مستعدّ للعودة إلى الحرب الأهليّة".
إنّ لكلّ فريق أوراقه القويّة، إذن، وإنّ "جعجع 14 آذار"، هو المُعادل الموضوعيّ الإجراميّ لـ"أسد 8 آذار"، وهذا يعني أنّ سحب ورقة جعجع من "اللعبة"، يقتضي تقديم الطرف الآخر تنازلات موازية على المستويين اللبنانيّ والسوريّ، وهو ما لا يمكن أن يحدث بسهولة. ولذا، فإنّ تهديد جنبلاط بالعودة إلى الحرب الأهليّة مؤشّر حقيقيّ على أنّ الأزمة اللبنانيّة بلغت ذروتها القصوى، وأنّ التنازلات ستكون صعبة ونادرة وقاسية على كلّ الفرقاء.
قد لا يصل جعجع، إذن، إلى سدّة الرئاسة، وذلك لن يغيّر في الأمر شيئاً. لكنّ اللامعقول السياسيّ، والّذي أوصله إلى أن يكون المرشّح الأوّل في الجولة الأولى، قد يوصله إلى الرئاسة، في جولة قادمة، مثلما أوصل معلّمه بشير الجميّل من قبله. عندها، لن يكون ممكناً تخيُّل المشهد اللبنانيّ  من دون التفكير في ذلك الرابط الخفيّ بين جعجع والجميّل الّذي كان من الصعب الحيلولة دون وصوله إلى الرئاسة، مثلما كان من الصعب القبول بوصوله إليها، ولم يكن ثمّة حلّ سوى في اغتياله. قتل الجميّل على يد مارونيّ (حبيب الشرتوني) من سكّان الحيّ ذاته الّذي سكن فيه، ومن خرّيجي المدرسة ذاتها الّتي درس فيها. إنّه القتل التراجيديّ الّذي لا يمكن تلافيه في قصص الموت المُعلن.           

 

 

     

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

3EB1E10F-A857-4544-8A47-AF6FE85B9960
زهير أبو شايب

شاعر وكاتب من فلسطين. مواليد 1958، له من المجموعات الشعرية "دفتر الأحوال والمقامات" و"ظل الليل"، و"سيرة العشب"، وغيرها. ومن الكتب "ثمرة الجوز القاسية". فاز بجائزة مؤسسة محمود درويش.