فتحي المسكيني: أن نأتي إليكم كمترجمين

فتحي المسكيني: أن نأتي إليكم كمترجمين

28 ديسمبر 2016
من المحاضرة، تصوير: مهدي مستوري
+ الخط -
تبدو الترجمة كغرفة مظلمة، يدخلها المترجم منفرداً بالنص الأصلي ثمّ يصل المُنتج النهائي إلى القارئ في لغته دون أن يعرف ما جدّ داخلها في ما عدا القليل الذي تتضمّنه الهوامش.

كتاب "الكينونة والزمان" (صدرت طبعته الأولى سنة 1927) للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889 – 1976) هو أحد أكثر الكتب إلغازاً، ولعل دخول الغرفة المظلمة للترجمة معه ينطوي على الكثير من التفاصيل والأسرار.

في 2012، ظهرت لأول مرة ترجمة كاملة للكتاب باللغة العربية أنجزها الأكاديمي التونسي فتحي المسكيني (1961) والذي كان يوم الجمعة الماضي ضيف "اللقاء الشهري للمعارف والعلوم" الذي ينظمه "النادي الثقافي الطاهر الحداد" في تونس العاصمة، وتحدّث فيه عن كواليس ترجمته لأبرز آثار هايدغر.

في بداية كلمته، يقول المسكيني "جميل أن ننصت لمن عملوا في صمت لسنوات طويلة"، ويكشف أن هذه ترجمة أخذت منه أزيد من عشر سنوات (من فبراير 1999 إلى أكتوبر 2010) وكانت بمبادرة فردية.

يشير صاحب "فلسفة النوابت" إلى أنه خلال اشتغاله على الكتاب قارن بين الترجمات الفرنسية والإنكليزية لنص هايدغر، فهذا المشروع يتطلّب التعرّف على المعارك الأخرى التي خاضها المترجمون مشيراً مثلاً إلى جدالات في ترجمة بعض الكلمات إلى الإنكليزية أو إلى الفرنسية، ومنها يعرّج على سجالات ترجمة Sein في العنوان إلى العربية، والاختلاف بين إن كانت الوجود أم الكينونة. هنا، يفسّر اختياره للثانية حيث إن هذا القرار ينبغي أن تراعى فيه قدرات الألفاظ التوليدية في لغتنا، إضافة إلى عوامل فلسفية أخرى.

يقول المسكيني إن "حدث الترجمة يتجاوز اختيار الكتب، وإن ثمة كتباً تلتهم الكتب الأخرى، وفي القرن العشرين أكل كتاب "الكينونة والزمان" الكتب الأخرى". يذكّر بمحاولات سبقته لوضع ترجمة عربية لنفس الكتاب، مثل محاولات عبد الرحمن بدوي أو عبد الغفار مكاوي وجورج زيناتي ولكنها توقفت لأسباب عديدة؛ أحدها هذه الخيارات اللغوية التي قد تقف بعملية الترجمة في منتصف الطريق، كما يقول إن "هناك جُملاً لهايدغر ينبغي ترجمتها إلى الألمانية أولاً".

لم تكن العقبة الوحيدة في ترجمة الكتاب متعلّقة بالصعوبات اللغوية، فمن المهم أن تكون الترجمة قانونية. حين فرغ المسكيني من عملية الترجمة، اتصل - كما يذكر في محاضرته - بالمؤسسة الألمانية التي تملك حقوق أعماله، والتي أخبرته بأن نجل الفيلسوف الألماني هو صاحب القرار الأخير في الموافقة على حقوق نقل عمله.

في البداية، رفض ابن هايدغر مقترح الترجمة نظراً لعدم وجود اسم المسكيني بين المتخصّصين في هايدغر وقتها، فردّ عليه "لماذا تستكثرون أن نأتي إليكم كمترجمين، هل تريدوننا فقط إرهابيين"؟ وأعلمه بأن النص مترجمٌ فعلاً، وتمّت الموافقة إثر ذلك.

عن هذه الحادثة، يعلّق المفكّر التونسي: "أعتقد أن العربية مؤهّلة لاحتضان هذا الفكر أكثر حتى من الألمانية نفسها، إذ هناك تورّط قامت به لغتنا في ما يكتشفه هايدغر في القرن العشرين". من زاوية أخرى، يشير إلى أن "عبقرية لغتنا لم تظهر عند ترجمة القدماء للفلسفة اليونانية لأن نصوصها مرّت من لغات أخرى بمؤثراتها الثقافية والدينية".

يرى المسكيني أن لنا خصوصية وهي أننا "يمكن أن نكون آخَر الغرب وداخل الإنسانية في آن، وأن التركة الإبراهيمية لا يمكن تركها للغرب ونمرّ، ومن هنا فنحن متورّطون في الحداثة والتي هي ليست سوى مواصلة للتوحيدية، إلا أن أوروبا حاولت احتكارها لنفسها".

وحول مضمون الكتاب، يرى المسكيني أنه يمكن أن نستفيد من إرادة هذا العمل لإعادة ترتيب العقل في الثقافة الإنسانية، وهو حديث يقوده للتطرّق إلى الوضع الفكري في العالم العربي اليوم، إذ يقول "هناك خشية على العقل في بلادنا، إذ إننا اليوم نواجه معضلة أن يضيع العقل في ثقافتنا وهذا أمر جلل".

يضيف "الترجمة هي نوع من تحمّل هذه الخشية على العقل، وتتضمّن أيضاً معنى تأمين اللغة التي نستعملها" مذكراً بأنه لا يمكن الفصل بين العقل واللغة حتى إن كلمة لوغوس في اليونانية القديمة تحمل معنى العقل والخطاب/ اللغة في آن.

وعن سؤال طُرح عليه ضمن النقاش الذي تلا محاضرته بأن كتاب "الكينونة والزمان" له عنفه على خلفية نزعته اللاسامية. يرى المسكيني أن "هايدغر ظلمته ثقافة الفضيحة التي نبتت في أوروبا"، معتبراً أننا "نحن كعرب لا يمكن أن نكون ولن نكون خجولين من هايدغر أكثر من اليهود"، في إشارة إلى فلاسفة يهود استندوا إلى منجزه مثل إيمانويل لفيناس وحنة أرنت وجاك دريدا.

يقول المسكيني إن "الفلاسفة قد يسقطون في هنات لا تهمّنا، فنحن ننسى أن كانط أهدى أعماله إلى سياسيّي عصره، وننسى أن دريدا أنكر جزائريته ويهوديته، أو أن كارل شميت ظل مصرّاً على نازيّته"، ويتابع "لا ينبغي أن نبرمج تقييماً لأعماله على ضوء ما وقع لليهود في معتقلات النازية، ولماذا لا نبرمجه على ما وقع للفلسطينيين بعد ذلك من اليهود"؟

يختم هذا الحديث بالقول "فلسفياً، كتاب "الكينونة والزمان" لا ينتمي إلى هايدغر الذي يتحدّثون عنه وأعماله كانت مكاسب للإنسانية في فهم الحداثة ونقدها، كل هذه المؤاخذات هي مؤامرة على فيلسوف كبير لا بد من التمرّد عليها".

المساهمون