فاكهة أحمد الفلاحي

فاكهة أحمد الفلاحي

06 يوليو 2020
+ الخط -

من يتعرّف على أحمد الفلاحي للمرّة الأولى لن يفارق ذاكرته بسهولة، وهو ما حدث لنزار قباني حين التقاه في جلسة عشاء في مسقط، حيث استفاض الفلاحي في ذكر تفاصيل أبهرت نزار وأبهرتنا، فقد تدفقت الذاكرة الصافية للشيخ، عارضة بصفاء كل ما كتبه الشاعر الكبير، ومنه قصيدة في رثاء جمال عبد الناصر، وقصائد غنّاها له أكبر نجوم الجيل الذهبي. لذلك حين غادر نزار مسقط، وكان مدعوا من النادي الثقافي العماني، كتب رسالةً إلى الشاعر سيف الرحبي، ومما قاله عن الفلاحي: "كان كتيبة من الشعر، والظُرف، والرواية، والثقافة بطحتنا جميعا على الأرض. إنه واحدٌ من الظرفاء العرب الذين سلِموا من هذا العصر الثقافي الحديث الذي لا مثيل لغلاظته".

بالإضافة إلى شغفه بالكتب، وتحويله شقته في مدينة الخوير في عُمان إلى "واحدة من أضخم المكتبات الخاصة في العالم العربي"، كما قال الكاتب الراحل جمال الغيطاني؛ ثمّة سعيه إلى تنمية خريطة معارفه. يقول الشاعر أحمد حريب "لم يترك الفلاحي عاصمة عربية إلا وألقى فيها شباك المودة والتواصل، مجاورا لجمال الغيطاني وصديقا ليوسف القعيد والطيب صالح، ورياض الريس، وسهيل إدريس، وهاني الراهب، وحرفوشًا فى مجالس نجيب محفوظ".

ولا بد كذلك من ذكر خصلة الكرم اللامحدود، بمعنييه المادي والمعنوي، تلخصها عبارة الكاتب القطري عمر الكواري: "نخلة تمشي بحملها على طول فصول السنة"، فإلى جانب إنكار الذات والتواضع والدماثة، وهي الصفات المطبوع عليها، والتي تتجسّد وتتجلى في مواقف لا حصر لها، مثلا لا يرفض أي دعوةٍ لإجراء لقاء صحافي، وإذا رفض فإنه من بابٍ غير متعال، تلخصه عبارته "أنا ما عندي شي أقوله، فلست سوى قارئ متطفل". صفات ثقافية عالية يتوشّح بها بدون ادّعاء جعلته في مصاف أهم أعلام الثقافة في زمنه، فهناك مجلسه الذي يعتبر مجمعا مفتوحا للأدب، يستقبل فيه ضيوفه في أي وقت، ومن دون موعد مسبق. ومواقفه الثقافية النضالية المطالبة بإنشاء معالم تحفظ الوجه الحضاري للبلاد. إلى جانب اقتنائه كل جديد من أصحاب دور النشر، وخصوصا من التي يديرها كتّاب يعرفهم. فدائما ثمّة عربة، أشبه بمكتبة حية ينمو جسدها في كل خطوة، تلاحقه في أروقة معارض الكتب. كتبٌ يحرص على إهدائها بقدر حرصه على اقتنائها، لذلك هو يشتري أكثر من نسخةٍ من كل كتاب. إلى جانب كرمه الموصوف في دعوة الأصدقاء، وخصوصا حين يفد ضيف ثقافي على مسقط. وملحة الحديث التي لخصها القاص المصري عبد الحكيم حيدر: "وإن حدّثك عن الشام أطربك. وإنْ دخل بك إلى أبواب الحكمة كان المتنبي على طرف لسانه، علاوة على شوارد كل الفرق والملل. لا يدّعي لنفسه شيئا، ولا ينسج لخطواته بطولةً من أي نوع. ترى فيه حكيمًا من الهند. عربي الملامح جاب أسواق الشرق خلال عمره، وعرف خفايا المذاهب، وخرج من كل الحروب والكلام، محتفظًا بوجهة نظر هادئة، من دون أن يفقد سماحته أو ابتسامته في السلام".

ذلك كله وغيره، تضمنّه كتاب "أحمد الفلاحي بأقلام عارفيه" الذي صدر أخيرا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سطر فيه 31 كاتبا، بعضهم رحل عن عالمنا، جمال الغيطاني ومحمد الحارثي وعبدالله الخليلي، شهاداتهم عنه. وقد تكفّل بجمعها مدير تحرير صحيفة الوطن العمانية، خلفان الزيدي. ولا أظنه استطاع أن يجمع كل شيء، فلا بد أن هناك ما توارى في "مناديس" الزمن، ومنه عمود كتبته في صحيفة الرؤية منذ أكثر من عقد، ذكرت فيه بعض تفاصيل رحلة إلى ربوع الصحراء، دعت إليها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، وقد انتهزت، لكتابة المقال، فرصة إجراء الفلاحي عملية ناجحة، متذكّرا تفاصيل من تلك الرحلة، من قبيل سيارة الفاكهة التي كانت تمخر الصحراء القاحلة. حيث بادر الفلاحي باستئجار سيارة رباعية الدفع، فقط لكي يملأها بأنواع الفاكهة المتوفرة بالسوق حينئذ. وكانت قطوفها دانيةً، حين ذاق منها كل من سكن المخيم الذي قضينا فيه ليلتنا، بمن فيهم نزلاء من خارج الجمعية، وبعضهم سياح أوروبيون. وبعد أن نشرت المقال، اتصل بي الفلاحي معربا لي عن عدم رغبته في إخبار أحدٍ عن تلك العملية الجراحية البسيطة، لأدرك، وبدون قصد، أني ورّطته في دوامة اتصالاتٍ تدفقت عليه من دون انقطاع.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي