مثّلت منظمة التحرير أحد أهم الإنجازات الفلسطينية في القرن الماضى، الأمر لا يتعلق فقط بقيادة النضال الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني واحتلال فلسطين، ولا حتى بتحويل القضية الفلسطينية من قضية لاجئين إلى قضية شعب يبحث عن الحرية والاستقلال وتقرير المصير، إنما بالتعبير عن وحدة الشعب الفلسطيني والقدرة على الاستفادة من الطاقات الفلسطينية في الشتات بأشكالها ومستوياتها المختلفة في سياق الصراع الشامل مع إسرائيل، وعبارة أن المنظمة هي الوطن المعنوي للفلسطينيين ولم تأت من فراغ، وكانت تعبر عن حقيقة شعور الفلسطينيين في الخارج تجاهها وعن مشاركتهم أو انخراطهم من خلالها في الهم والشأن الفلسطيني العام على قدم المساواة مع من بقي في الوطن ليواجه مباشرة آلة القمع للاحتلال الإسرائيلي.
منظمة التحرير نشأت أساساً بقرار من المنظومة العربية الرسمية، غير أنها بدت بعد ذلك ومع سيطرة الثوار عليها مختلفة متمايزة عن تلك المنظومة في إدارتها وأدائها خاصة بعد النكبة الثانية عام 1967، مثلت الأمل ليس فقط للفلسطينيين في الداخل والخارج وإنما للعرب أيضاً في الخروج من النكبة وتكريس فكرة أن الشعب الفلسطيني والشعوب العربية لا تستسلم ولن تستسلم طالما أنها ترفض الاعتراف بإسرائيل وطالما أنها مستمرة في مقاومة الاحتلال بكافة الأساليب والوسائل المتاحة.
غير أن المنظمة ضعفت شيئاً فشيئاً بعد الخروج من بيروت عام 1982، ثم حرب الخليج الثانية 1990، وتداعياتها الكارثية على فلسطين والمنطقة برمتها، التي كان اتفاق أوسلو أحد أبرز تجلياتها. في الاتفاق بدت المنظمة كأنها تخلت عن روحها مقابل جسدها، اعترفت بها -بالجسد- إسرائيل مقابل اعترافها هي بالدولة العبرية، ومع انتقال قادتها للداخل فإن تماهيها واندماجها بالسلطة جعلها تتخلى عملياً عن مسؤولياتها تجاه فلسطينيي الخارج، بدا أن مصطلح أو مفهوم الفلسطيني يتعلق بأهل الداخل فقط، مع ابتلاع السلطة للمنظمة ومسؤولية الأولى عن فلسطينيي الداخل فقط حسب اتفاق أوسلو بينما باتت المنظمة مجرد إطار للتفاوض من أجل التغطية والمضي قدماً في المسار نفسه مسار مدريد- أوسلو الذي شهد تخليها عن مواطنيها في الخارج.
بعد أوسلو عاش فلسطينيو الخارج في الشتات، ليس فقط التقليدي في دول الطوق، إنما الشتات الجديد فى الغرب فترة من الصدمة العجز عن استيعاب ما فعلته قيادة المنظمة بهم، شعروا وكأنهم تركوا لمصيرهم وباتوا في العراء من الناحية السياسية، أحسوا أنهم فعلاً قد فقدوا وطنهم المعنوي الذي تخلى عنهم خاصة مع الاقتناع أن جوهر عملية التسوية عملية مدريد -أوسلو فى أحسن أحواله، يتضمن التخلى عن حق عودة اللاجئين مقابل دولة فلسطينية ضمن حدود حزيران/ يونيو 1967.
حالة الصدمة استمرت لأكثر من عشر سنوات تحديداً بعد الاقتتال والانقسام الفلسطيني - الفلسطيني الذي عمق تلك الحالة، إلا أن استئناف الحوارات الفلسطينية -توجت بوثيقة 2011- من أجل المصالحة وإنهاء الانقسام وهو ما أحيا الأمل الذي تجدد وكبر مع حرب غزة الأولى بل حروبها الثلاث ثم تصاعد وتيرة المقاومة الشعبية في الضفة الغربية، ليعيد وصل الخارج بالداخل، ويعيد للأول أهميته في دعم صمود الثاني وحتى الانخراط مرة أخرى في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا مع الوسائل التي أتاحها التطور والتقدم التكنولوجي وثورة الاتصالات عبر الإعلام الجديد، ثم الطفرة القضائية الدولية في محاسبة المجرمين عن جرائم الحرب، جرائم ضد الإنسانية، كما حدث في البوسنة والهرسك وبعض الدول الأفريقية، وتصاعد وتيرة المقاطعة والمحاسبة للدولة العبرية وتحويلها إلى سلاح مهم بأيدي الشعب الفلسطينى يقوم فيه الشتات خاصة فى الغرب بالدور المركزي الرئيسي.
غير أن انخراط الشتات الفلسطيني فى النضال ضد إسرائيل عبر ساحات الإعلام الجديد، والقضاء الدولي ثم معركة المقاطعة المتنامية والمتصاعدة، واجتذاب الرأي العام الدولي إلى جانب الرواية والحق الفلسطيني بدا وكأنه انخراط جزئي أو موضعي، بمعنى أننا نفتقر هنا إلى إطار مؤسساتي جامع يدمج بين كل تلك الوسائل والمعارك السابقة الإعلامية والقضائية والاقتصادية في سياق سياسي وطني فلسطيني واحد، وبالتأكيد ليس كل الطاقات فى الخارج منخرطة بها، حتى أن فكرة تشكيل هيئات وأطر للجاليات الفلسطينية هنا أو هناك، على أهميتها، بدت وكأنها جزء من الأزمة وليست الحل، وتعبر عن الانقسام السياسى والحزبي في الداخل، ومعظمها بدا محليا وفي الاتجاه المعاكس لخلق إطار واحد جامع لتلك الجاليات.
هذا الإطار لابد أن يكون بالضرورة سياسيا، تابعا لمنظمة التحرير بشكل مباشر وأحد أذرعها بصفتها الكيان الوطن المعنوي، غير أن هذا لا يمكن أن يتم بمعزل عن إنهاء الانقسام وإعادة بناء المنظمة بشكل ديمقراطي شفاف ونزيه، كي تكون معبرة فعلا عن المزاج الشعبي الجماهيري في الداخل والخارج، فكرة الانتخابات مطروحة فعلا في كافة التفاهمات ووثائق المصالحة، للمجلس الوطني بصفته البرلمان الجامع للشعب الفلسطيني، وعبارة حيثما أمكن ملازمة دائما للانتخابات، ومع الاقتناع أن من الصعوبة بمكان إجراؤها في دول الشتات اللجوء القديم -دول أنظمة الاستبداد العربية المحيطة بفلسطين- إلا أنها ممكنة ومتاحة في وسط الانتشار أو اللجوء الجديد في أوروبا وأميركا وآسيا. وبالتأكيد وفق النظام النسبي الكامل وبنسبة حسم منخفضة نسبياً من أجل ضمان مشاركة أكبر شريحة سياسية وجماهيرية ممكنة.
على عكس الروايات والتمنيات الصهيونية التقليدية، التى قالت إن الجيل الفلسطيني الأول سيموت، والأجيال التالية خاصة في الشتات ستنسى، واضح أن جيل الأجداد أورث الأبناء والأحفاد الذاكرة الوطنية العصية عن النسيان، والأجيال الجديدة لم تنس أو تتنازل عن حقها، وهى مستعدة للمساهمة وتقوم فعلاً بدورها في الشأن الوطني العام ولو بشكل جزئي مشتت ومنفرد مؤسساتياً وسياسياً وجغرافياً، وبالتأكيد فإن الإطار المؤسساتي الجامع سيجعل النتائج ملموسة وفعالة أكثر، وسيراكم مزيداً من الصعوبات والعراقيل، أمام أي جهة تحاول فرض حل غير عادل، أو حتى تصفية القضية الفلسطينية بما في ذلك شطب حق عودة اللاجئين، الحق الذي يمثل القاسم المشترك الأعظم للاجئين في الشتات.
(باحث وإعلامي)
منظمة التحرير نشأت أساساً بقرار من المنظومة العربية الرسمية، غير أنها بدت بعد ذلك ومع سيطرة الثوار عليها مختلفة متمايزة عن تلك المنظومة في إدارتها وأدائها خاصة بعد النكبة الثانية عام 1967، مثلت الأمل ليس فقط للفلسطينيين في الداخل والخارج وإنما للعرب أيضاً في الخروج من النكبة وتكريس فكرة أن الشعب الفلسطيني والشعوب العربية لا تستسلم ولن تستسلم طالما أنها ترفض الاعتراف بإسرائيل وطالما أنها مستمرة في مقاومة الاحتلال بكافة الأساليب والوسائل المتاحة.
غير أن المنظمة ضعفت شيئاً فشيئاً بعد الخروج من بيروت عام 1982، ثم حرب الخليج الثانية 1990، وتداعياتها الكارثية على فلسطين والمنطقة برمتها، التي كان اتفاق أوسلو أحد أبرز تجلياتها. في الاتفاق بدت المنظمة كأنها تخلت عن روحها مقابل جسدها، اعترفت بها -بالجسد- إسرائيل مقابل اعترافها هي بالدولة العبرية، ومع انتقال قادتها للداخل فإن تماهيها واندماجها بالسلطة جعلها تتخلى عملياً عن مسؤولياتها تجاه فلسطينيي الخارج، بدا أن مصطلح أو مفهوم الفلسطيني يتعلق بأهل الداخل فقط، مع ابتلاع السلطة للمنظمة ومسؤولية الأولى عن فلسطينيي الداخل فقط حسب اتفاق أوسلو بينما باتت المنظمة مجرد إطار للتفاوض من أجل التغطية والمضي قدماً في المسار نفسه مسار مدريد- أوسلو الذي شهد تخليها عن مواطنيها في الخارج.
بعد أوسلو عاش فلسطينيو الخارج في الشتات، ليس فقط التقليدي في دول الطوق، إنما الشتات الجديد فى الغرب فترة من الصدمة العجز عن استيعاب ما فعلته قيادة المنظمة بهم، شعروا وكأنهم تركوا لمصيرهم وباتوا في العراء من الناحية السياسية، أحسوا أنهم فعلاً قد فقدوا وطنهم المعنوي الذي تخلى عنهم خاصة مع الاقتناع أن جوهر عملية التسوية عملية مدريد -أوسلو فى أحسن أحواله، يتضمن التخلى عن حق عودة اللاجئين مقابل دولة فلسطينية ضمن حدود حزيران/ يونيو 1967.
حالة الصدمة استمرت لأكثر من عشر سنوات تحديداً بعد الاقتتال والانقسام الفلسطيني - الفلسطيني الذي عمق تلك الحالة، إلا أن استئناف الحوارات الفلسطينية -توجت بوثيقة 2011- من أجل المصالحة وإنهاء الانقسام وهو ما أحيا الأمل الذي تجدد وكبر مع حرب غزة الأولى بل حروبها الثلاث ثم تصاعد وتيرة المقاومة الشعبية في الضفة الغربية، ليعيد وصل الخارج بالداخل، ويعيد للأول أهميته في دعم صمود الثاني وحتى الانخراط مرة أخرى في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا مع الوسائل التي أتاحها التطور والتقدم التكنولوجي وثورة الاتصالات عبر الإعلام الجديد، ثم الطفرة القضائية الدولية في محاسبة المجرمين عن جرائم الحرب، جرائم ضد الإنسانية، كما حدث في البوسنة والهرسك وبعض الدول الأفريقية، وتصاعد وتيرة المقاطعة والمحاسبة للدولة العبرية وتحويلها إلى سلاح مهم بأيدي الشعب الفلسطينى يقوم فيه الشتات خاصة فى الغرب بالدور المركزي الرئيسي.
غير أن انخراط الشتات الفلسطيني فى النضال ضد إسرائيل عبر ساحات الإعلام الجديد، والقضاء الدولي ثم معركة المقاطعة المتنامية والمتصاعدة، واجتذاب الرأي العام الدولي إلى جانب الرواية والحق الفلسطيني بدا وكأنه انخراط جزئي أو موضعي، بمعنى أننا نفتقر هنا إلى إطار مؤسساتي جامع يدمج بين كل تلك الوسائل والمعارك السابقة الإعلامية والقضائية والاقتصادية في سياق سياسي وطني فلسطيني واحد، وبالتأكيد ليس كل الطاقات فى الخارج منخرطة بها، حتى أن فكرة تشكيل هيئات وأطر للجاليات الفلسطينية هنا أو هناك، على أهميتها، بدت وكأنها جزء من الأزمة وليست الحل، وتعبر عن الانقسام السياسى والحزبي في الداخل، ومعظمها بدا محليا وفي الاتجاه المعاكس لخلق إطار واحد جامع لتلك الجاليات.
هذا الإطار لابد أن يكون بالضرورة سياسيا، تابعا لمنظمة التحرير بشكل مباشر وأحد أذرعها بصفتها الكيان الوطن المعنوي، غير أن هذا لا يمكن أن يتم بمعزل عن إنهاء الانقسام وإعادة بناء المنظمة بشكل ديمقراطي شفاف ونزيه، كي تكون معبرة فعلا عن المزاج الشعبي الجماهيري في الداخل والخارج، فكرة الانتخابات مطروحة فعلا في كافة التفاهمات ووثائق المصالحة، للمجلس الوطني بصفته البرلمان الجامع للشعب الفلسطيني، وعبارة حيثما أمكن ملازمة دائما للانتخابات، ومع الاقتناع أن من الصعوبة بمكان إجراؤها في دول الشتات اللجوء القديم -دول أنظمة الاستبداد العربية المحيطة بفلسطين- إلا أنها ممكنة ومتاحة في وسط الانتشار أو اللجوء الجديد في أوروبا وأميركا وآسيا. وبالتأكيد وفق النظام النسبي الكامل وبنسبة حسم منخفضة نسبياً من أجل ضمان مشاركة أكبر شريحة سياسية وجماهيرية ممكنة.
على عكس الروايات والتمنيات الصهيونية التقليدية، التى قالت إن الجيل الفلسطيني الأول سيموت، والأجيال التالية خاصة في الشتات ستنسى، واضح أن جيل الأجداد أورث الأبناء والأحفاد الذاكرة الوطنية العصية عن النسيان، والأجيال الجديدة لم تنس أو تتنازل عن حقها، وهى مستعدة للمساهمة وتقوم فعلاً بدورها في الشأن الوطني العام ولو بشكل جزئي مشتت ومنفرد مؤسساتياً وسياسياً وجغرافياً، وبالتأكيد فإن الإطار المؤسساتي الجامع سيجعل النتائج ملموسة وفعالة أكثر، وسيراكم مزيداً من الصعوبات والعراقيل، أمام أي جهة تحاول فرض حل غير عادل، أو حتى تصفية القضية الفلسطينية بما في ذلك شطب حق عودة اللاجئين، الحق الذي يمثل القاسم المشترك الأعظم للاجئين في الشتات.
(باحث وإعلامي)