غياب الشفافية والنقد الذاتي الفلسطيني

غياب الشفافية والنقد الذاتي الفلسطيني

18 أكتوبر 2018
+ الخط -
يواجه الفلسطينيون المقيمون في الضفة الغربية وقطاع غزة تحدّيات كثيرة ناجمة عن سلسلة طويلة من الأخطاء السلطوية في كل منهما، وهو ما يشكل خطراً يهدد الشعب والقضية الفلسطينية عموما. لكن وعلى الرغم من مسؤولية كلا السلطتين عن هذا الواقع، إلا أنهما تتهرّبان من تحمله، عبر خطاب إلقاء اللوم على الطرف الفلسطيني الآخر، وعلى الظرفين، الدولي والإقليمي، بدلاً من الكشف عن الدور المركزي لجميع السياسات الفلسطينية الخاطئة فيه.
من خلال فصل الحاضر عن الماضي بصورة قسريةٍ وتعسفيةٍ، وكأننا نواجه اليوم ظرفا استثنائيا صادماً يتناقض مع واقع صراعنا التاريخي مع الاحتلال، كما يتم تخوين وتسفيه غالبية الأصوات التي تطالب بمراجعة التجربة الفلسطينية، وممارسة النقد الذاتي، من أجل العودة إلى المسار الوطني، واصطفاء الوسائل والآليات التي تتلاءم مع طبيعة الصراع، ومع إمكاناتنا، ومع مجمل الظرف الخارجي، تحت ذرائع كبيرة وكثيرة، تتمحور في أن الأولوية اليوم هي مواجهة الهجمة الشرسة علينا وعلى قضيتنا، بحيث يصبح خطاب الزعيم، أو بيان الحركة، أو الفصيل، أو المنظمة المرجع الوحيد لهذه المواجهة. فلا صوت يعلو على صوت هذه القيادات اليوم، حتى لو لم يمثل هذا الزعيم أو الحركة مصالح الغالبية الفلسطينية داخل فلسطين وخارجها.
وهو ما يؤدي إلى حماية أمراضنا الداخلية التي مهدت الطريق لما نحن فيه الآن، بل والتي تهدّدنا يومياً بمزيد من الانحدار والسقوط، مثل تغير البرنامج الوطني الفلسطيني، وتبنّي منظمة التحرير 
البرنامج المرحلي الذي مهد الطريق أمام اتفاقات السلام أو الاستسلام (أوسلو)، والتي قدمت مجموعة كبيرة من التنازلات الفلسطينية المجانية عربون سلام لن يأتي، وإن أتى سيبقى سلاما هشّا غير قابل للصمود كونه سلاما ظاهريا وقسريا، فرضه الخلل في ميزان القوى، خلل حوّل القاتل، السارق، المستعمر، المستوطن، إلى حمل وديع ينتظر الفرصة السانحة، كي يعم السلام في المنطقة، من دون أن يتخلى أو يعترف بما اقترفت يداه عن سبق إصرار وترصّد. وعليه، وضح اليوم أن السلام المبني على تفوق الجاني على الضحية كذبة كبيرة تحجب خلفها سعي الجاني إلى الحفاظ على كل ما انتزعه تحت تهديد السلاح، وبحماية المجتمع الدولي كاملا، وعزمه على تشويه الحقائق وتحريفها، حتى يصبح الجاني ضحية، والضحية جانيا، والحق باطلا والباطل حقا.
إذاً مهدت منظمة التحرير بجميع فصائلها، وفي مقدمتها فتح الطريق أمام الولايات المتحدة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي؛ كي يعبثوا بالقضية الفلسطينية، ويعملوا على إعادة تشكيلها وفق مصالحهم وأهوائهم، بعد مساهمة المنظمة في تمييع القضية وثوابتها، بل وقولبتها بأشكالٍ متعدّدة وفق مقتضيات الحاجة والزمان والمكان والظرف، وهو ما لمسناه في التسريبات الإسرائيلية عن تنازلات الوفد الفلسطيني المفاوض مراراً وتكراراً، وفي حديث رئيس السلطة مع بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، والتي تتناقض مع خطاب حركة فتح داخل الاجتماعات الفصائلية؛ بما فيها اجتماعات المصالحة ومنظمة التحرير، وإنْ كانت بمجملها لا تعبر عن كامل الحقوق الفلسطينية، إلا أن درجة التنازل والاستسلام تختلف من موقع إلى موقع، ومن زمن إلى آخر. وهو ما منح الاحتلال وداعميه الضوء الأخضر كي يتلاعبوا هم أيضاً بها وبمصيرنا كيفما يشاؤون.
بينما نجد على الطرف الآخر الذي تعتبر حركة حماس ممثله الأبرز أخطاء عديدة وكبيرة، أدت إلى المصير والنهاية نفسيهما بسرعة زمنية قياسية، بدأت من هوجائية العمل المسلح الذي هدف إلى كسب شعبية وجماهيرية سريعة فقط، وهو ما تجاهل ميزان القوى الفعلية والظرف المحلي والدولي والإقليمي، كما تجاهل بديهيات العمل المقاوم، ما أدى إلى استنزاف القدرات والإمكانات الفلسطينية المحدودة والمجزّأة أصلاً، بدلاً من محاولة تطويرها وبنائها وإعدادها في خدمة معركة طويلة وقاسية. والذي تبعه انتهاز أول فرصةٍ سانحةٍ من أجل الانقضاض على السلطة، حتى لو كان الثمن انهيار العمل المقاوم أو إضعافه. حيث حاولت "حماس" بداية استثمار رحيل ياسر عرفات الذي كان يتمتع برمزية وشعبية يصعب عليها مواجهتها، كي تشارك لأول مرة في انتخابات المجلس التشريعي، وأصرّت على رئاسة الحكومة وتأليفها استناداً إلى نجاحها الانتخابي، وكأننا في دولة مستقلة ذات سيادة، وهو ما يتناقض مع مجمل خطابها السابق الذي كان يدعو إلى مواجهة الاحتلال، بدلا من اللهاث خلف سلطةٍ لا سلطة لها، وخاضعة بالمطلق لسيطرة الاحتلال.
ونتيجة رفض حركة فتح الواضح والعلني لأي شكل من المشاركة في إدارة هذه السلطة 
الوهمية (ورفض غالبية المجتمع الدولي والإقليمي كذلك)، ومن أجل تحقيق هدف "حماس" غير المعلن في إحكام قبضتها على أي سلطةٍ كانت، كان لا بد من فرض هذه السلطة بقوة السلاح، مهما كان الثمن باهظا. وبذلك أصبحنا أمام واقع جديد محبط محزن مأساوي، يتمثل في سلطتين فلسطينيتين وهميتين في كل من قطاع غزة والضفة الغربية. الأمر الذي مهد الطريق إلى حصار غزة، أو سلطة "حماس" في غزة (حسب مزاعم الاحتلال)، حصارا يعكس وهمية السلطة، وخضوعها المطلق لإرادة الاحتلال وسيطرته، وهو ما كانت تنبه منه حركة حماس قبل مجاهرتها بطموحاتها السلطوية. الأمر الذي يجعلنا نحمل الحركة مسؤولية الواقع الغزاوي والفلسطيني بالقدر نفسه الذي تتحمّله حركة فتح، بعد تحميل الاحتلال وداعميه المسؤولية الأولى عن كل الإجرام والإستخفاف بحقوق جميع الفلسطينيين.
لم تختلف سياسات الاحتلال وداعميه في مواجهتنا منذ بدايات الصراع، بل كانت وما زالت تسعى إلى قضم مزيد من الأراضي والحقوق الفلسطينية والعربية إجمالاً، وصولاً إلى محاولات متجددة ودورية تهدف إلى إنهاء القضية وتصفيتها. لكن الاختلاف الجوهري يتمثل في جوهر السياسات الفلسطينية التي سهلت عليهم المهمة إلى أبعد حد. لذا لا بد من تحديد جميع هذه الأخطاء والكبوات، وتحميل القوى المتسببة بها مسؤولية الحضيض الذي يقبع فيه الفلسطينيون اليوم، والذي يتبعه إلزامهم بإفساح المجال أمام الأصوات الوطنية والمبدئية العقلانية، كي تتمكّن من إطلاق حوار ومراجعة وطنية شاملة، قد تتمخّض عن تأسيس هياكل وطنية وثورية تمثل الوعي الشعبي الفلسطيني الوطني، خاضعة لسلطة الشعب، وقابلة للنقد والتطوير والمراجعة بكل شفافية ووضوح.