غلاف رأسمالي لفن شيوعي!

غلاف رأسمالي لفن شيوعي!

23 يونيو 2020
+ الخط -
حين فكر معهد ومتحف ديترويت للفنون قبل خمسة أعوام في إعادة تقديم نفسه للجمهور بعد الأزمة المادية الطاحنة التي هددت مصيره، لم يجد وسيلة أفضل من اللجوء إلى ما لديه من مخزون مبهر، لأعمال الفنان المكسيكي الشهير دييجو ريفييرا ورفيقته الفنانة المكسيكية الأشهر فريدا كالهو، والذين اشتهرا لدينا وفي العالم من خلال الفيلم الجميل (فريدا)، لذي قدمته المخرجة جولي تيمور عن حياتهما، وأدت فيه دور فريدا الممثلة الكبيرة سلمى حايك، وأدى دور دييجو الممثل الكبير ألفريد مولينا.

دييجو وفريدا 


لم يأت لجوء المتحف لأعمال دييجو ريفييرا وفريدا كالهو من فراغ، فعلاقة دييجو وفريدا بمدينة ديترويت قديمة ووثيقة، حيث قضى الإثنان فيها عاماً كاملاً في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، وبالتحديد بين عامي 1932 و1933. كانت ديترويت وقتها أشهر مدينة صناعية في الغرب الأوسط للولايات المتحدة، وقد ترافقت زيارة فريدا ودييجو المتزوجين حديثا لها مع بدايات الكساد الاقتصادي الكبير الذي ضرب أمريكا والعالم والذي عانت منه المدينة بشدة، والملفت أن ديترويت في ذلك الوقت الصعب، قررت أن تقوم بخفض ميزانية المتحف بنسبة تسعين في المائة، وبدأت تفكر في بيع بعض مقتنياته الفنية، وهو ما تكرر بحذافيره في عام 2013، حين حاولت المدينة الخروج من أزمتها الإقتصادية الطاحنة التي استمرت عدة سنوات، والتي هددتها بإعلان إفلاسها مجدداً، لتظهر أصوات عديدة في وسائل الإعلام تطالب بالتخلي عن المتحف وبيع مقتنياته، خاصة أن تقييم الأعمال الموجودة في المتحف قام بتقدير قيمتها بمبلغ يصل إلى 20 مليار دولار، في حين أن دين المدينة كان يصل وقت إجراء التقييم إلى 18 مليار دولار.

لن تستغرب القيمة العالية لمقتنيات المتحف، إذا عرفت أنه أول متحف أمريكي قام بشراء لوحات لفان جوخ وماتيس بعد تأسيسه في عام 1885، كما أنه يضم في مجموعة مقتنياته لوحات لفنانين مشاهير من أمثال رامبرانت وبابلو بيكاسو وأندي وارهول، وهي أعمال لم يكن سيحصل عليها، لولا المساهمات التي كان يقدمها له في سنوات الرخاء كبار رجال الأعمال العاملين في صناعة السيارات التي اشتهرت بها المدينة، وقد أكسبت تلك المقتنيات المتحف سمعة عالمية رفيعة لدى محبي الفن، وجلبت له 600 ألف زائر سنوياً.

ولأن المتحف ارتبط عبر السنين بتاريخ ديترويت فقد وقف ضد محاولات بيع مقتنياته أغلب سكان المدينة الذين أظهرت استطلاعات الرأي التي أجريت بينهم أن 78 في المائة من سكان ديترويت يعارضون بيع أعمال المتحف الفنية، ويعتبرون أن نهاية المتحف تعني نهاية مدينتهم، وأن تعرض المدينة للإفلاس أرحم بكثير من بيع المتحف، ليتم طرح نقل ملكية المتحف إلى هيئة خيرية تدعمها الحكومة وبعض المؤسسات الخاصة، ولتقرر ثلاث مناطق في ولاية ميتشيغن التي تتبع لها مدينة ديترويت، أن تقوم بتمويل نشاط المتحف من خلال ضريبة يتم فرضها، تصل إيراداتها إلى 23 مليون دولار سنويا، ومع ذلك لم تنته متاعب المتحف، خاصة بعد إعلان مدينة ديترويت إفلاسها في يوليو 2013، ليعود الحديث المثير للقلق عن وضع المتحف، وليستمر محبوه في المقاومة من أجل زيادة إيرادات المتحف، ومن هنا بدأت في عام 2015 حملة إعلامية لإعادة تقديم المتحف في كل وسائل الإعلام الأمريكية، بتقديم تغطية مستفيضة للمعرض الذي يضم حوالي 64 عملا، مما بحوزة المتحف من أعمال لدييجو ريفييرا وفريدا كالهو، لاستغلال الشهرة العالمية لهذين الفنانين، والحديث عن ارتباطهما التاريخي بمدينة ديترويت.

المفارقة أن دييجو ريفييرا الفنان الشيوعي فكراً وتوجهاً، كان قد جاء إلى ديترويت بدعوة من إدسيل ابن التايكون الرأسمالي هنري فورد وصاحب شركة فورد لصناعة السيارات، ليقوم برسم جداريات ضخمة تمول شركة فورد تنفيذها. وقتها كانت ديترويت تعيش صراعا ملتهبا بين عمال الشركة وإدارتها، وصل إلى حد وقوع مصادمات دامية قبل أسابيع من مجيئ دييجو إلى المدينة، حيث قام ستة آلاف عامل بتنظيم إضراب، تدخل البوليس لفضه، فوقعت مواجهات عنيفة، تم على إثرها فتح النار على العمال، وسقط أربعة منهم قتلى، وأصيب عدد آخر، ومع ذلك فقد قرر دييجو أن لا يتخذ موقفاً انفعالياً فيوقف تعامله مع شركة فورد، بل اختار أن يستمر في مشروعه، ليستغل الجداريات للتعبير عن أفكاره المتضامنة مع العمال، ويحولها إلى ملحمة فنية تخلد كفاح عمال المدينة، مركزاً على فكرة تضامنهم في العمل برغم كونهم من أعراق مختلفة، تجسيداً للشعار الشيوعي الأشهر (يا عمال العالم اتحدوا)، لكن الجو العام الملتهب لم يساعد على استقبال مشروع دييجو بشكل جيد من العمال، الذين تصور أنه يتضامن معهم بمشروعه، في حين رأى كثير منهم أن دييجو قادم في مهمة علاقات عامة، من أجل تجميل صورة الشركة التي تظلمهم وتستغل حقوقهم، وأن لوحاته لا تختلف كثيرا عن كونها منشوراً دعائياً "بامفلت"، لكنه موضوع على الحوائط وبتكلفة باهظة.

كان دييجو ريفييرا قد بدأ تجربته في رسم الجداريات في الولايات المتحدة قبل ذلك في ولاية كاليفورنيا عام 1931، حيث قام بعمل جداريات مدرسة كاليفورنيا للفنون الجميلة في سان فرانسيكو، وهي الجداريات التي جلبت له انتباه ابن فورد، ودفعته للتعاقد معه، وحين جاء إلى ديترويت، أخذ دييجو عمله هناك بجدية شديدة، خاصة أنه حين زار مصانع فورد الضخمة، انبهر بالتكنولوجيا المستخدمة فيها، والتي كانت وقتها هي الأكثر تقدماً في العالم، خاصة أنها لم تكن تصنع السيارات فقط، بل والطائرات والسفن والجرارات والسكك الحديدية، بل وزار مصانع الدواء أيضاً، وانبهر بها جدا، واستمرت جولاته الميدانية لمدة ثلاثة أشهر، كان يدون فيها الأفكار التي سيقوم برسمها في الجداريات.

استعان دييجو بمجموعة من المصورين البارعين، بعد أن تحول المشروع بالنسبة له من مجرد فرصة فنية لإظهار موهبته في الرسم، إلى فرصة لترجمة أفكاره الشيوعية في عمل فني ضخم مكون من 27 جدارية، بحيث يترجم أفكار كارل ماركس عن العمال والصناعة والعلاقة بين الإنسان والآلة، بدعم من أموال الرأسمالي فورد، وهو ما دفعه للعمل بحماس شديد، حتى أنه أنهى العمل في زمن قياسي هو ثمانية أشهر فقط، وهو ما اضطره للعمل 15 ساعة يوميا في كثير من الأحيان دون أوقات راحة، مما جعله ينجح في إنقاص الكثير من وزنه الضخم الذي كان مشهورا به، لكن ذلك العمل الشاق للمفارقة، جلب له مشاكل كثيرة مع مساعديه العمال، ليكتسب دييجو المدافع عن حقوق العمال سمعة سيئة بأنه لا يدفع جيدا لمساعديه، وهو ما دفعهم للتظاهر ضده في إحدى المرات.

لم تنته مشاكل دييجو ريفييرا حين انتهى من رسم تلك الجداريات، بل أخذت منحنى أكثر حدة، ففور عرضها على الجمهور، تلقت الجداريات ردود فعل غاضبة من بعض النقاد الذين اتهموه بتحويل الجداريات إلى دعاية ماركسية، في حين تم اتهامه بالتجديف وازدراء المسيحية، من قبل عدد من رجال الدين الكاثوليك، الذين ركزوا على لوحة في إحدى الجداريات، يظهر بها السيد المسيح، وهو يتم تطعيمه على يد طبيب يمثل دوره يوسف الصديق وممرضة هي السيدة مريم العذراء، وحدث جدل شديد حول تلك الجدارية، كان سبباً في أن يصل عدد زوار المتحف في أحد أيام الأحد إلى عشرة آلاف زائر، ورغم أن كثيراً من رجال الدين والمواطنين المتدينين طالبوا بتدمير تلك الجدارية، إلا أن مدير المعهد ويهلم فالينتاينر أخذ موقفا صلبا ومشرفا، حين رفض ذلك بشدة، وسانده في موقفه أعضاء مجلس إدارة المعهد، كما تلقى دييجو دعماً مبطناً من أدسيل فورد الذي قال بعض الخبثاء، أنه هو الذي حض دييجو على رسم تلك الجدارية أصلا، لإثارة الجدل حول الجداريات وجذب أكبر عدد من الجمهور لزيارة المتحف.

الجدارية التي أثارت غضب متديني ديترويت 


وبغض النظر عن كل ذلك الجدل ودقة ما أثير حوله، فالمهم أن الجدارية لا زالت قائمة كما هي حتى اليوم، على عكس ما حدث لإحدى جداريات دييجو التي رسمها في مدينة نيويورك بعدها بعام، والتي كان قد ذهب إليها، بدعوة من أسرة رأسمالية أخرى، هي أسرة الملياردير روكفلر التي دعته لرسم جداريات في مركز روكفلر الشهير في مدينة نيويورك، فقام بعمل عدة جداريات كان من بينها جدارية بعنوان (رجل في مفترق الطرق)، قام فيها برسم شخصية الزعيم الشيوعي الشهير فلاديمير لينين، دون أن يدرك أنها ستتحول من عمل فني إلى مثار لأزمة سياسية كبيرة، في ظل تصاعد موجة العداء للشيوعية والتي تحولت إلى محاكم تفتيش شرسة قادها السيناتور جوزيف مكارثي، وهو ما جعل الأسرة تتخلص من الصداع الذي سببته لها، فقامت بإتلاف تلك الجدارية، متهمة دييجو بأنه قام بخداعها، ولولا أن دييجو استخدم الإسكتشات الأصلية التي كانت لديه، ليقوم بإعادة عمل الجدارية ثانية في مدينة مكسيكو، لكانت الجدارية قد اختفت إلى الأبد.

في نفس الحقبة المكارثية اللعينة، والتي تم فيها تعقب أشخاص وأعمال الفنانين والكتاب اليساريين، طالب البعض بتدمير جداريات دييجو ريفييرا الموجودة في ديترويت بوصفها أعمالا من رجس الشيوعية، لكن ذلك الطلب وجد مقاومة شرسة من إدارة معهد ديترويت، التي قررت أن تحل الأمر، بشكل فيه قدر كبير من التحايل الذكي على الهوس المكارثي، حيث قامت بتثبيت لوحة على مدخل القاعة التي تضم جدرايات دييجو، كتبت فيها الآتي: "قد تكون أنشطة دييجو ريفييرا واهتماماته السياسية التي يسعى لها بغيضة، لكن دعونا نضع الأمور في نصابها الصحيح حول ما فعله هنا، لقد جاء دييجو من المكسيك إلى ديترويت، معتقدا أن صناعاتنا الضخمة والتكنولوجيا التي لدينا رائعة ومثيرة للغاية، وقام برسمها بوصفها واحدة من الإنجازات العظيمة في القرن العشرين، حدث ذلك في الوقت الذي كان فيه الفنانون والكتاب الأمريكان لا يرون في أمريكا شيئا جديرا بالإهتمام، ويعتبرون أن أسوأ ما في أمريكا هو الغرب الأوسط، في ذلك الوقت رأى ريفييرا ديترويت كمدينة عالمية مهمة، وإذا كنا فخورين بإنجازات هذه المدينة، يجب أن نكون فخورين بهذه اللوحات، ولا ندع ما يقوم به ريفييرا في المكسيك من نشاط سياسي ينسينا ذلك".

حين رسم دييجو ريفييرا جدارياته، كان وقتها في سن الخامسة والأربعين، في حين كانت زوجته فريدا في الرابعة والعشرين من عمرها، كان دييجو قد بلغ ذروة نجاحه وقتها، فيما كانت فريدا لا تزال تبحث عن طريق مستقل لهويتها الفنية، وهو ما تحقق لها بشكل مؤلم، حين تعرضت لحادث إجهاض مؤسف، ففقدت جنينها في مستشفى هنري فورد في مدينة ديترويت، وقررت خلال فترة النقاهة التي قضتها، في غرفة مطلة على المدينة من أعلى، أن ترسم لوحات تعبر عن تجربتها المؤلمة، مدمجة المدينة كما رأتها من موقعها، داخل تلك اللوحات التي يتم عرضها الآن في المعرض الذي يقيمه متحف ديترويت، لتبدو تلك اللوحات أشد تأثيراً على من يشاهدها، من لوحات دييجو ريفييرا التي بذل فيها مجهوداً ضخماً، لكن إعادة عرضها بعد كل ما تعرضت له مدينة ديترويت من استنزاف إقتصادي أحال نهضتها الصناعية إلى ذكرى غابرة، جعل تلك اللوحات مثيرة للحزن أكثر من إثارتها للإعجاب، ومن يدري فقد تستعيد المدينة مجدها الصناعي يوماً ما، ويجد عمال مصانعها في تلك اللوحات التي رسمها دييجو ريفييرا ما يعبر عنهم ويلهب حماسهم ويدفعهم للتضامن من أجل نيل حقوقهم كاملة وعدم التفريط فيها لمصلحة الشركات التي يعملون لديها، ليصل المعنى الذي أراد دييجو ريفييرا إلى مستحقيه ولو بعد عمر طويل.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.