غشاء

غشاء

17 أكتوبر 2018
(تفصيل من عمل للفنان السوداني صلاح المر)
+ الخط -
لَمْ أرَ وجه أُمِّي في حياتي، أبداً، غير بضع لحظات يمنحها لي هواء عاصف يرأف بي قليلا، لكن حتّى تلك اللحظات لا تمكِّنّني من رؤية وجهها جيَّداً؛ إذ كلّ الذي أستطيع تمييزه خلالها هو أنّ لها بشرة داكنة اللون، وربّما أكون مخطِئا بهذا أيضاً؛ فعيناي صارتا لا تميّزا شيئاً؛ ولا حتّى الظَّلام نفسه.

أُمِّي تلفّ نفسها بقطعة قماش كبيرة لها كلّ شهرٍ لون جديد، فتصير كالشّرنقة - أو أصير أنا كذلك - إنّها لا تخلعها عنها أبداً، تتجول، تنام، وتقضي حوائجها كلّها بِها. فقد حملتْ بي وهي ترتديها، ووضعتني وهي ترتديها أيضاً، عندما قامت تلك المرأة التي ساعدت أُمِّي بِإخراجي من بطنها وطلبتْ منها إرضاعي؛ لَمْ تتكبد أُمِّي عناء أنْ تراني جيِّداً أو تدعني أنظر إلى عينيها، بل ولَمْ تتساءل عن كوني ذكراً أم أنثى؟! كلّ الذي تكبدتْ عناءه هو أنْ تسحب ثوبها إلى أسفل! حتّى إنّني بدأت أتساءل إنْ كنتُ طفلها الأول؟ في ذلك اليوم نفسه سمعتُ أُمِّي تتحدّث عن أنّها ستعود للعمل! "ماذا؟! أَوَلَمْ تضعني قبل ساعات؟! ترى ما نوع عملها؟".

عدّلتْ أُمِّي من قطعة القماش الكبيرة التي تلفّ نفسها بِها، لكن هذه المرَّة قامت بإضافة كائن جديد لقطعة القماش الكبيرة؛ لفّتني بحذر أمامها بطريقة لا أدري كنهها، لكنها حرصتْ على ألّا أرى وجهها وألّا أرى شيئاً من العالم سوى رائحتها وقطعة القماش الكبيرة! أربّما لأنّها تخشى من أنْ يقوم العالم بإهانتي عندما أكبر - وهل سأكبر؟! - لأنّها تعمل كشحّاذة أو متسوّلة - لست أدري ما الفرق - بين الطّرقات؟!

الآن وقد أخبرتكم طبيعة عملها.. نعم هذه الكائنة البشرية تقوم بالتّسوّل على الطّرقات، لا يهمّني ما الذي تمارسه بالضّبط ولا يعنيني كثيرا، كلّ الذي يهمّني ويقلقني ويقضّ مضجعي - مع العلم أنّه ليس لدَي مضجع لكن لا يهمّني - أريد فقط أنْ أرى وجهها! وجهها فقط!! أنا لا أطلبُ الكثير؛ جل ما أطلبه هو إلقاء نظرة واحدة لا غير.

منذ مولدي وأنا أعيش داخل قطعة القماش الكبيرة هذه؛ عندما تودّ أُمِّي إطعامي بعض الحليب من ثديها الذي تظنّ أنّه ممتلئ بالحليب وهو ليس كذلك؛ في الواقع هو مليء بشيءٍ لا أدري ماهيته جيّداً. شيءٌ ليس بسائلٍ، لكنه شيءٌ يجعلني أفكر؛ يزودني بالمعرفة ويمكنني من رؤية العالم. ليس بسائلٍ، أنا واثق من ذلك.. عندما تود إطعامي، كانت تخرج ثديها بداخل قطعة القماش الكبيرة وأنا بالداخل أيضا، كنت دائما أحسِب احتمالات أنْ تتجود لي بنظرةٍ واحدةٍ لكن لا يحدث ذلك ولن يحدث.

كانت تحملني معها أينما ذهبتْ، كنّا نقضي معظم ساعات اليوم على الطّرقات والأرصفة، تعرق وأعرق أنا داخل قطعة القماش الكبيرة، أتبوّل، أتقيأ؛ كلّ ذلك دون أنْ تكلّف نفسها عناء النّظر إلى طفلها المسكين. كنت بالرّغم من ذلك كله أشفق عليها كثيرا؛ فهي تقضي معظم ساعات اليوم متسولةً أمثالها من البشر، تراودني دائما صورة لقدميها فأتخيلهما مشققتين كما يجب.

ألا تشعر بالحرّ يا ترى؟! أم تراها لا تشعر بشيء؟! أم تراني وحدي أشعر بذلك؟! على الرغم من شعوري بالحرّ الشّديد والدّائم وإصابتي الدّائمة بالغثيان إلا أنّني لَمْ أبكِ إلا لحظة خروجي من رحمها فقط؛ لست أدري لماذا؟! لكنّني أشفق عليها حقا! مسكينة هذه المرأة! لكن لو أنّها تنظر لي فقط أو تبدّل قطعة القماش الكبيرة على الأقل!! إنّها لا تخلعها عنها أبداً؛ تبول بها وأبول فيها، أتقيأ فيها.. تعرق فيها وأنا كذلك! وكل ذلك يصيبني بالغثيان الشّديد فيدفعني مجدداً لفعل كلّ ما سبق.

لو أنّها فقط تبدل قطعة القماش الكبيرة، لا أتنفس سوى الهواء الذي يتخلل القطعة فيكتسب رائحتها، لَمْ تقع عيناي على شيءٍ سواها هي - القطعة – وثدييها. كنت أتغذى على ذاك الشّيء الذي ليس بسائلٍ والذي كان يزودني بالمعرفة ويجعلني أفكر وأرى العالم، كان هذا يكفيني لكن جسدي صار يتداعى، فأنا لا أتغذّى إلا على المعرفة وكانت هذه الأخيرة تنهك جسدي. أنا مريضٌ. مريضٌ لدرجة تجعلني لا أقوى على البُكاء، أصاب جسدي تعفّنٌ ما، وعقلي؟! أشعر بِأنّني لست سوى عقلٍ؛ فهو الشّيء الوحيد الذي يتغذّى هنا... ولكنّي مريضٌ.

لَمْ تعد قطعة القماش الكبيرة مكاناً يصلح للنمو؛ فهي تزداد عفونةً ساعةً تلو الأخرى.. فلقد أصابني التهاب في القشرة الكظرية والتهاب الجلد الاستشرائي والتهاب بتماسه مع قطعة القماش الكبيرة، وأصابتني الأكزيما القرصية وأكزيما الرّكود والحزاز المسطّح والحزاز البسيط المدمن وكذلك الصّدفية والالتهاب الجلدي الزّهامي ولا تنس الحكة العقدية والذّئبة الإحمرارية القرصية، وبعض فقدان في الذّاكرة لأنّني نسيت بعض من الأمراض المزمنة. أرأيتَ؟... كلمّا زادت معرفة الكائن - أي كائن - زادتْ تعاسته.

أُمّي لا تعلم ما الذي يحدث لي بِداخل قطعة القماش الكبيرة، وربّما لا تريد، ولا تتساءل لماذا لا أبكِ كما الأطفال؟ لكنها تعلم أنّني على قيد الحياة؛ كلّما منحتها إشارةً من إشارات الوجود على قيد الحياة: كأن أتقيأ أو أتبوّل، وأيضاً عندما أستجيب - بِكلّ سرورٍ - لحليب المعرفة الذي يسبب شقائي. أشعر بأنّ شارباً قد نما لي، لست أدري إنْ كان هذا بالشّيء الجيَّد أم لا، لكنّي على علم بأنّني سأفارق الحياة عمّا قريب؛ إذ إنّني قد صرت أرى فراشات خضراء اللون كلّ يوم؛ هذا يعني: أنّني سأفارق الحياة. نعم، أعلم ذلك.

كلما زادت معرفة الكائن - أي كائن - زادت تعاسته. اليوم سيكون آخر يوم لي بِهذه الحياة ولم أرَ وجه أُمِّي بعد ولا أي شيءٍ من هذا العالم، سأعود من حيثّ أتيتُ، سأرى الفراشات الخضراء وعندها فقط سأودّع العالم على عجل وأُمِّي وقطعة القماش الكبيرة وأموت على الفور.

كيف يُمكنني أنْ أودّع أُمِّي؟! أو أنبّهها إلى أنّني اليوم سأرحل ولن أعود؟! لا أدري.

لاحت الفراشات الخضراء، لَمْ أستطع أنْ أودّع العالم ولا أُمِّي، لكني ودّعتُ ثدييها على عجل كما ودّعتُ قطعة القماش الكبيرة، ورحتُ في سبات عميق.

لست أدري كيف علمت أُمِّي بِرحيلي، ربّما لأنّني لَمْ أتقيأ ليومٍ كامل ولم أتعرق ولم أستجب لثدييها. كنتُ قد عقدتُ اتفاقاً مع جسدي: أنّه وبِالتّأكيد في يومٍ مماتي سترى أُمِّي وجهي وسأرى وجهها رغماً عن أنف روحي. وكان الاتفاق ينصّ على أنْ يدعني جسدي أرى وجهها في تلك اللحظة بِأي طريقةٍ ما. لكن عندما علمت أُمِّي بِرحيلي ما كان منها إلا أنْ تخلّت عن قطعة القماش الكبيرة ولفّتني بها بإحكام دون أنْ تلقي نظرةً أولى أو أخيرة علَيّ، أخذتني أُمِّي ورمتْ بي بقبرٍ صغيرٍ، وذهبتْ دون أنْ أراها.

لا يوجد فرق بين حياتي الآن وحياتي السّابقة، لَمْ أرَ أُمِّي ومتشرنقٌ أنا بِقطعة القماش الكبيرة، أجترّ معرفتي الثديية السّابقة ومُصابٌ بالمرض.

* قاصة من السودان

المساهمون