غسّان كنفاني قتيل السياسة

غسّان كنفاني قتيل السياسة

14 يوليو 2017

رسم لـ "حركة شباب فلسطين"

+ الخط -
في الثامن من يوليو/ تموز 1972، قُتل غسّان كنفاني بتفجير سيارته في بيروت. 36 عاماً عاشها، وانتهت بلحظة خاطفة. رحيل مبكر لكاتب وفنان يجتاحه نهم الحياة والخلق. يموت كثيرون في مثل هذا العمر أو أصغر، بسبب انخراطهم في أتون قضيةٍ سياسيةٍ، تحمل إمكانات الموت في كل لحظةٍ من عمر الناس، حاملي رايتها.
كنت في بيروت، عندما قُتل غسّان كنفاني، وأصابني حزنٌ وغضبٌ. لم أكن سعيداً في الموقع الذي احتله غسان كنفاني في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كنت أعتقد أن مطرحه لا يجب أن يكون داخل هذا الإطار أو الأطر التنظيمية الفلسطينية الأخرى، كي يبدع ويكتب، ويرسم، ويقرأ التاريخ الفلسطيني، وينقد الأدب، ويرسم الكاريكاتور أيضاً. كانت الجبهة الشعبية في تلك السنوات جامحةً جموح مراهق، وفهمت النضال الفلسطيني بطريقةٍ ساذجةٍ واستعراضيةٍ كفاحية. كانت الجبهة، وهي تحاول مستميتةً منافسة حركة فتح على قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، غير مدركة حجمها، وبنيتها الخربة، وتناقضاتها في اعتناق النظرية الماركسية اللينينية على أرضيةٍ فكريةٍ غارقة بالفكر القومي العروبي، وبنية طبقية لا تؤهلها لأن تكون حزباً للطبقة العاملة الذي انقطعت أنفاسها، وهي تسعى إليه منذ عقود طويلة، وهو يتهرّب من بين أصابعها، لأنه لا يقوم في أرضٍ غير أرضه، ولا بيئة غير بيئته، ولا في فهم صبياني للنظرية، ولا بالنهج الأهوج في محاربة العدو في كل مكان، كما كان شعار الجبهة، وهذا الشعار الذي قتل غسان كنفاني مبكراً، وحرم الأدب والإبداع الفلسطيني من معلمٍ، كان يمكن لو أنه عاش أطول لربما وضع الثقافة الفلسطينية غير هذا الوضع، وخصوصاً بعد رحيل مبدعين فلسطينيين كثيرين.
أسمح لنفسي بأن أقول إن غسّان كنفاني ارتكب خطأً أودى بحياته في انخراطه في صفوف الجبهة الشعبية، وشغله منصب الناطق الرسمي للجبهة في مرحلة العمليات الخرقاء، مثل خطف الطائرات وظهوره في مؤتمرات صحافية، مدافعاً عن هذا الشكل من العمليات التي آذت الثورة الفلسطينية في تلك المرحلة أكثر مما أفادتها، وانتهت بتسليط ضوء الاستهداف بالقتل عليه، ما جعل نهايته تراجيدية وخسارة احتمالاته الإبداعية واستمرارها خسارة لشعبه. كل المبدعين الفلسطينيين الكبار الذين انخرطوا بالتنظيمات الفلسطينية، أو كانوا قريبين منها، انتهوا اغتيالاً بموت فاجع على أيدي الأعداء، كمال ناصر وماجد أبو شرار وناجي العلي وغسان كنفاني، وكلهم ماتوا ولم تكن رحلتهم الإبداعية قد اكتملت.
عرفتُ غسّان كنفاني، بين عامي 70 و72 عن قرب، فقد نشر لي، وكنت في الثامنة عشرة، أول نص في مجلة الهدف، وقرأت لأول مرة نصوص محمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم وسالم جبران وحنا أبو حنا في كتابه "أدب المقاومة في فلسطين المحتلة"، وكان أطرف كاريكاتور رأيته بريشة غسان كنفاني، وكان يمثل كارل ماركس يحمل غيتاراً ويلبس بنطلوناً من موضة الشارلستون الشائعة في نهاية الستينات. وأنا أعود اليوم إلى ذلك الرسم الذي كان يحتفظ به تحت زجاج طاولته في "الهدف"، أحاول أن أفهم روح السخرية فيه. ليست السخرية من ماركس نفسه، بقدر ما هي سخرية من التزام الجبهة الشعبية بالماركسية، مستبدلة قسراً القومية العربية. أقول ربما لأن واقع اليسار الفلسطيني كان، منذ البدء، هجيناً وإسقاطاً بلا معرفة، ولا دراسة، ولا إدراك لماهية الماركسية اللينينية. ربما أراد كنفاني، في رسمه ذاك، أن يلطّف أجواء الجدل الحار في صفوف الجبهة عن الماركسية، ذلك أن كثيرين من قياداتها، ومنهم وديع حدّاد صاحب شعار وراء العدو في كل مكان، كانوا معادين للنهج الماركسي.
يمكن القول إن الأكثر مدعاة لعدم الاكتراث في العناصر المكونة في تجربة كنفاني المبدع كان انتماؤه الحزبي، والأكثر سخريةً أنه العنصر الذي أدّى إلى قتله.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.