غزة ورابعة.. مجزرتان تلتقيان

16 اغسطس 2014
+ الخط -


كانت البداية في شهر رمضان عند مقر الحرس الجمهوري والمنصة في القاهرة، حيث بدأ القتل بالمئات. وفي الشهر الكريم نفسه، كانت طائرات الصهاينة تحوم في سماء غزة، تحصد أرواح المئات، بدون سابق تنبيه ولا إنذار. ثم كانت المحرقة الكبرى في الأيام الأولى من شهر عيد الفطر، ففي ميداني رابعة العدوية والنهضة، وميدان رمسيس، وغيرها، أتى الإجرام بلا قلب، ولا إحساس، وبعشوائية لا تعرف الإنسانية، على آلاف الشهداء والجرحى من الأبرياء المسالمين. وفي غزة الصمود، ومع العيد، أيضاً، كانت مجازر الصهاينة الحاقدة في الشجاعية وخزاعة، ورفح، وغيرها لا تفرق بين حجر وشجر، ولا بين إنسان وجماد، تحصد آلاف الشهداء والجرحى من المواطنين الأحرار.

في قطعة من فلسطين الأبية، تسمى غزة العزة، أبى رجالها، ونساؤها، وأطفالها، إلا أن يعيشوا أو يموتوا أحراراً، كما خُلقوا أحراراً، يدفعون الغاصب المحتل للأرض والوطن، فحوصروا من جميع المنافذ والمعابر. وقطعة من مصر الحبيبة، تسمى رابعة الصمود، أصر المعتصمون فيها على الحرية والكرامة، والوقوف أمام غاصبي إرادة الأمة المحتلين للسلطة، فحوصر أهلها يوم المذبحة من جميع المخارج. وقيل: هناك مخرجٌ آمن لمن ترك الميدان، ولم يكن المخرج المزعوم إلا باباً من الذل والهوان، فكان الاعتقال والسحل والتنكيل بالشرفاء.

في غزة ورابعة، كانوا هم الرجال والنساء، والأطفال والشيوخ، الركع السجود، الصائمين القارئين للقرآن، الصامدين المستمسكين، الصابرين المرابطين الذين لا يملكون إلا عزتهم وكرامتهم في ما قاموا من أجله، الحرية والتحرير، والعزة والكرامة. وصفهم الغاصب الغشوم، الفاجر الحاقد، بأنهم جميعاً (إخوان مسلمون)، ورماهم بأنهم (إرهابيون مخربون)، فكانت هذه تهمتهم؛ ومن أجل هذا سُفكت دماؤهم، واستبيحت أعراضهم، وبرر المجرمون قتلهم، وسوّق الدهماء مجازرهم.

أرضٌ احتلت، واغتصبت بتواطؤ عالمي، وسكوت إقليمي، ودعم محلي عربي، فهبّت فلسطين وفي طليعتها أشاوس غزة، ينادون بتحرير الأرض وكرامة الإنسان، ومقاومة المحتل الغاصب، ورفع الظلم والحصار، وإنهاء الاحتلال. أما في ميدان رابعة، فإرادة شعب سُلبت، وسلطة اغتصبت، وثورة أمة سُرقت، بمؤامرة دولية إقليمية، ودعم عربي، فقام المصريون وفي مقدمتهم أسود رابعة، ينادون باسترداد الإرادة والشرعية، ومقاومة الخيانة والعمالة، ورفع الظلم والحصار عن مكتسبات الأمة ورجالاتها.

وفي غزة ورابعة: أرادوا إسكات زئير الأسود الصدّاع بالحق، وإخماد جذوة الحرية والكرامة المتقدة، وإخفات النخوة ولهيب العزة والحماسة في شباب الأمة، وإرهاب المتعاطفين المترددين، وإطفاء نور الحق الأبلج، وإحلال ظلمات الضلال والإذلال، وقمع الفضيلة، ونشر الرذيلة.

أرادوا إسلاماً ساكتاً قابعاً لا حراك فيه، ومقاومة ناعمة على صنيعتهم؛ فقرروا القضاء على روح الإسلام الحق. وكانت السلمية الشعار والمنهج في رابعة. السلمية التي تعني عدم الخنوع والخوف، وعدم الركوع والركون، وعدم الذل والاستسلام، وعدم النزول على رأي الخونة والمعتدين. سلمية لا تهاجم بالعنف، كما أنها لا تستسلم للهجوم، سلمية لا تعتدي، لكنها ترد كيد المعتدين، سلمية لا تعرف الفجور ولا الطغيان، لكنها تؤرّق الفجار وترهب الطغاة. سلمية تؤمن بأن الموت دون العرض والأرض والمال والحرية والدين هو أصل الشهادة، وباب الشهداء. تزيدها الدماء والأشلاء صموداً وعزة وإباء، سلمية لا تنتهي إلا بالنصر أو الفوز.
 
في رابعة الصمود وغزة العزة، خرجت أبواق الشر من اللئام، ممن يسمون إعلاميين وإعلاميات، ينفثون الخُبث والخَبث، فجعلوا الضحايا الشرفاء مجرمين عملاء، والقاتلين المجرمين أشاوس وأبطالاً، وصفوا المقاومين البواسل بإرهابيين أشرار، والمحتلين الجبناء محررين أطهار! ورموا الشباب الحر الغيور بالتغييب والتضليل، وجعلوا البلطجة والتحرش والاغتصاب رمزاً للمواطنين الشرفاء!

أما عن فقدان الآدمية، فالإيغال في القتل، والتمادي في الفجور، والتباهي بالعدوان على الأطفال والنساء، وتبرير فعل المجرمين الأفاكين، وتزيين شرور وسوء أعمال الخائنين الغاصبين، دليل على إماتة الحس الإنساني وضياع قلب الآدمي، ويالها من خسارة!

التمايز والتباين بين المؤمن والمنافق، والصادق والمخادع، والأمين والعميل، من أعظم مكاسب المواجهة بين الحق والباطل. ميزت رابعة الصمود الحق من الباطل، والمواطن من العميل، والصدوق من الكاذب اللجوج، وعلماء الدين والآخرة من علماء السلطة والدنيا، وأحزاب الزور والبهتان من أحزاب المبادئ والإيمان. أما غزة العزة، فقد كشفت المخبوء، وأبانت المستور، صهاينة يسوسون بلاد العرب والمسلمين، يختبئون خلف اللغة والثوب والدين، ويتوارون خلف الشعارات المزيفة، والأهازيج الهابطة؛ فأسقطت غزة الأقنعة، وأبانت العورات والسوءات! فلم تعد الأمور سقطات في لحن القول، ولا تسريبات الكواليس، التي يدركها المحللون، إنما أصبحت تصريحات في ظاهر القول وعلنه.

إن من أعظم مكاسب المجزرتين أنهما أعلنتا عن ميلاد جيل جديد، به ينتصر الحق، ويمحق الباطل، فهم مفرزة الإيمان، منهم اصطفى الله الشهداء، ورفع الله قدرهم بما يلقونه من شدة التمحيص، وميز الظالمين، وبهم سيتم وعد الله الأكيد، نصر الدنيا وجنة الآخرة.

avata
avata
بسيوني نحيلة (مصر)
بسيوني نحيلة (مصر)