غزة وبدلة إميل سيوران
لا تترك الحرب وقتاً للنقد...لكنها كاشفة للأفهام(عمل لِكريستوفير فيورلونجGetty)
يعترف إميل سيوران بأن أول ما خطر له، يوم دخول النازيين إلى باريس، حيث يقيم، هو أن قيمة الفرنك الفرنسي ستهبط، فسارع يسابق الدبابات النازية إلى متجر "لافايت"، ليشتري حلّة (بدلة) جديدة، بما معه من نقود، قبل أن تفقد كثيراً من قيمتها.
هكذا ببساطة تصرف سيوران حيال أحد أهم الأحداث في التاريخ المعاصر، وهكذا كانت الحلة الجديدة التي اشتراها في تلك اللحظات، وتبرمه من البائع الذي استنكر، من دون تصريح، سلوكه، تعبيراً مباشراً عن تصوراته الفكرية والأدبية. واستدعاء البدلة الجديدة، اليوم، خلال الحرب على غزة، ربما يعين على فهم مواقف كثيرين من المثقفين والمشتغلين بالثقافة خلال المعركة.
في العدوان، أو المعركة، يضطر الناس لتغيير أجندتهم قليلاً، تحديداً أولئك المتصلون بها عاطفياً لا أكثر، وتتغير معها نقاشاتهم، وسجالاتهم وكتاباتهم، تغدو المعركة موضوعاً ثقيلاً يفرض نفسه، ويمكن رصد الكثير من الصمت، وفي مراحل متقدمة التبرم. هذا توصيف أولي لحالة المشتغلين بالثقافة عربياً، حين تتصدر غزة نشرة الأخبار.
يغدو ثقيلاً وغير وارد الحديث بشأنٍ بعيد عن الحرب، والصمت ملاذ، ربما هو وجه من أوجه بدلة سيوران. وفي مراحل أخرى، تبرم يعبّر عن نفسه بالانزلاق إلى السجال السياسي، من دون استيفاء عدته والقدرة عليه، والقدرة على الخوض في السياسة، وهم المشتغلون بالثقافة والفنون الأول والأفدح.
من الملاحظ أن الحرب، ويمكن القول لحظة كغزة اليوم، لا تحرّض منتجاً ثقافياً لدى كثيرين، ولا تقودهم إلى الإبداع، وليست الظرف الفعال في تحريك طاقتهم الإبداعية، بل تبدو مناسبة لتجديد الصلات مع النزعات العدمية الانكفائية – سيوران أبوها بامتياز-، والحقيقة أن ما يحدث هو تعبير مباشر عن فهم خاص سائد للاشتغال بالثقافة، ذاك الانشغال الذي حصرها في تفكيك المعنى، بدل إنتاجه، وهذا ما يقعدها، ويقعد المشتغلين بها، عاجزين حيال واقع يخلق المعنى، أو يمعن في الإفصاح عن وجوده.
إن عدم قدرة الشاعر على التقاط الحياة بين كل هذا الموت، وعدم قدرة الفنان على تخيّل الممكنات المشيدة من كل هذا الدمار، وعدم قدرة الموسيقي على التقاط نغمة ضد اليأس في أصوات الناجين؛ كل هذا يحمل إشارات واضحة على التأخر في إدراك اللحظة الواقعة، وحجم الفجوة معها.
إن لحظة التسمر أمام شاشة التلفاز الطافحة بالدم، من دون القدرة حتى على الفعل ثقافيا؛ إنما هي لحظة حادة في مواجهة التصور السائد عن الثقافة والاشتغال بها، لحظة كفيلة بإعادة بناء تصور كامل عن حقيقة الفعل الثقافي، وعلاقته بالناس مولدي المعنى في الحرب، أو انتكاس إلى موقع ذاتي مفرط تحت ضغط التصورات المتوهمة لدور الثقافة وفعلها.
لا تترك الحرب وقتاً للنقد والتقييم، لكنها كاشفة للتصورات والمواقع والأفهام، بل وتوفر حالة لاختبار المقولات المجانية، فالاحتفاء بالحياة كقيمة مضادة للموت، مثلاً، تغدو اختباراً خلال الحرب، حيث الموت شرط لحياة أفضل. هكذا تزيد الحرب الأمور تركيباً، فتكشف التناول السطحي للمعنى، واستسهال تفكيكه وتبسيطه.
ومع كل هذا، تكشف الحرب أولئك المنسحبين إلى زقاق فرعي، سعياً وراء حاجة شخصية، منتهزين الظرف السانح، مخلّفين الميدان المشتعل بغيرهم، وباستعارة سيوران، مرة أخرى، مع التذكير بأن فرنسا محل إقامته، لا وطنه.
تبدو الحلّة الجديدة في لحظتنا الراهنة مناسبة لإجراء مقابلة تلفزيونية مثلا، خلال المواجهة، وتدعي التماهي معها، أو بعد المواجهة للتعقيب عليها وتقييمها، وكالعادة، باستسهال غريب للخوض في السياسة، وبتصورات وسقوف أخفض بكثير من تلك التي أنتجها العاديون، الضحايا، الصامدون في الحرب، متداولو المعنى ومعيدو إنتاجه.