غزة.. مؤشر الضمير العربي
عندما نرى المواقف الشعبية الحارة، الداعمة لصمود غزة في وجه العدوان الإسرائيلي المتواصل، نكتشف أن الضمير الجمعي العربي مازال ينبض بالحياة، إذ يبدو قادراً على تحفيز الشعوب، لتقول كلمتها في مشهد القضايا العربية، مهما كلفها ذلك. فهو نفسه من وقف مرات عديدة مع محطات النضالين، الفلسطيني واللبناني، ضد الاحتلال الإسرائيلي، ووقف ضد الاحتلال الأميركي والغربي للعراق، وضد التدخل في شؤونه الداخلية، كما وقف مع ثورات الحرية والديمقراطية بدءاً من تونس، وإلى غاية سورية، فقد انحاز مبكراً لمطالب الشعب السوري، وسانده، وما يزال، ضد كل ما يتعرض له من قمع وتقتيل على يد نظام الأسد وحلفائه.
يعطي الضمير الشعبي العربي زخماً قوياً للقضايا التي ينحاز لها، فيساعدها على البقاء حية، حتى لو واجهتها أصعب الظروف، وإن كللت بالنجاح، يدعمها لتتقدم أكثر إلى الأمام. منشأ الضمير الشعبي هو في اللحظة الوجدانية الكبرى، حينما يشعر مجموعة أشخاص بالانتماء إلى هوية واحدة، يتجاوزون بها الانتماءات الأخرى، فيؤمنون بالأهداف المشتركة، مثل الحرية والتقدم والتحرر من الديكتاتورية، ويلتزمون بالدفاع عن القضايا النابعة من صميم هذه الأهداف الجامعة التي تصب في مصلحة توافقهم على الانتماءات، ويحرصون تلقائياً على تسخير كل ما يخدمها، من دون أن يطيلوا النظر في واقع أنظمة بلدانهم، الذي قد يحملهم على التخلي عن هويتهم، والبحث عن أي حياة دون الحياة المكتملة بتاج الكرامة والكبرياء تجنباً للعسف والبطش.
التعامل مع الواقع حساس ضمن خريطة الوعي العربي المتأزم، فبواسطته، يمكن الفصل بين من يحركهم الضمير بإيجابية، لتجاوز معيقات هذا الواقع، ثم السعي إلى تغيير، بالتناسب مع صلاحيته لأهدافهم الجمعية، وبين من يستسلمون للواقع، ويبنون، على أساسه، نظريات معرفية تبريرية، شاملة لكل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، تنتهي بقبوله، كما هو، على الرغم من عدم ملاءمته وصلاحيته. وهناك من تؤدي بهم حالة الخضوع إلى مخاصمة الضمير والمزايدة عليه في بعض القضايا، ليبقى تحت سيطرتهم وعباءتهم، فلا يخرج عن الحدود المرسومة له.
لا نقول إن حركية الضمير الجمعي العربي تقترب من المثاليات، و تعطي إجابات وافية عن كل أزمات الوعي، والمادة التي نعاني منها، لكنها تعطي فرصة مواتية لتوجيه قوى المجتمعات العربية نحو حل مشكلاتها المستعصية. لنتخيل تحرك كل تلك الجماهير وتفاعلاتها إن صُبَت في إطلاق نقاش عربي عام حول نظرة العرب إلى الحاضر، وعلاقتهم بالماضي، وخياراتهم المستقبلية. في هذه الحال، ستتوسع دائرة تأثير الضمير الجمعي من مواكبة الحدث إلى محاولة صناعته وترتيب عناصره، لنتحدث، حينئذٍ، عما يمكن أن نسميه بنيات الضمير العربي، المنوطة بها مهمة تأطير الاندفاع الفطري، وتوجيهه وتطوير آلياته، ليتمكن من تأدية رسالته بنجاح، شريطة أن يكون ذلك متحرراً من منظومة الاستغلال والأبوية، فهناك فرق واضح بين بناء رأي عام حقيقي واعٍ وأن تصادر عقول الناس باسم الشعارات الجوفاء، وهو ما فعلته أنظمة متسلطة كثيرة في المنطقة العربية، أخذت من الضمير غلافه الخارجي، وتركت اللب.
نرى أنه كلما كان الصفاء صفة قضية ما، وكلما ابتعدت عن الأطر الرسمية، وبقيت بين ذراعي حاضنتها الشعبية، كلما كان دور الضمير الجمعي فيها واضحاً. وهو ما يميز القضية الفلسطينية، خصوصاً غزة والمقاومة فيها، التي تمثل رمزية التحرر خارج منظومة علاقات عجز النظام العربي المستبد، وتجاوز آليات قراره، وسياساته الخارجية الواهنة المكملة لسياسات الاستبداد الداخلية. غزة تذكر العرب بضعفهم وحالتهم الجيوسياسية المتراجعة، لكنها تعطيهم خياراً، كما تعطيهم أملاً صادقاً، يلتقطه الضمير، فيستشعر إمكانية الخروج من النفق، إذا وضع الحرية الحقة النقية أمام عينيه، ولا شيء غيرها.