غزة كسرت غرور المزاودين

غزة كسرت غرور المزاودين

13 اغسطس 2014
+ الخط -


لم نعد بحاجة إلى انتظار صافرة انتهاء الحرب الرسمية حتى يتبيّن أن المقاومة كسبت هذه الجولة، وقدّمت نموذجاً رفيعاً لقيادة الحالة الفلسطينية، بعدما طوّرت أداءها أفقياً وعمودياً، وحرمت الجيش الإسرائيلي من نشوة التفوق الجوي والتقني، ثمّ التحمت مع حاضنتها الشعبية أكثر، وتبنّت مطالب أهل غزة، وأولها رفع الحصار. المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس، انتصرت على الجيش الإسرائيلي المقهور، وعلى هامش انتصارها، كسرت غرور بعض العرب المزاودين.
وقد حدّدت دولة الاحتلال موعد حربها على قطاع غزّة، وبدأتها وهي تعلم، قبل غيرها، أنّ ساعة الصفر لانتهاء الحرب لن تكون بيدها وحدها، وكان الجميع يتوقّع أن تترك تطورات الميدان التراكمية أثرها في توقيت انتهاء الحرب. ولكن، لم يتصور أكثر المراقبين تفاؤلاً أنّ المقاومة ستردف صمودها على الأرض بانتصارات عسكرية وتكنولوجية وأخلاقية غير مسبوقة.

اختار بنيامين نتنياهو هدفه العريض من العملية التي سماها "الجرف الصامد" ضد المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وهو إنهاء تهديد صواريخ المقاومة، وكان يكفي فصائل المقاومة العسكرية في قطاع غزة المحاصَر منذ ثمانية أعوام، أن تمنع الجيش الإسرائيلي من تحقيق هذا الهدف، لتكون المنتصرة بالعرف العسكري.

ذهبت القسام إلى أبعد من ذلك، فاخترقت بث القناتين التلفزيونيتين العبريتين، الثانية والعاشرة، وبثّت للشارع الإسرائيلي مباشرة رسالة صمودها وإصرارها على مواصلة المقاومة بكل أشكالها. وبشكل غير مباشر، كشفت أن الحرب غير تقليدية، ووسائل المقاومة ستتعدّى الصواريخ النوعية ذات المدى المتعدد، مروراً بفرق الكوماندوز البحري، والإنزال من خلف الخطوط، من دون أن تقف عند حد اختراق منظومة رادارات القبة الحديدية بسرب من طائرات الاستطلاع التي حلّقت وصوّرت، وعادتْ في معظمها سالمةً غانمة.

هربت الحكومة الأمنية والسياسية الإسرائيلية المصغّرة من السقوط السياسي والعسكري والتقني الصادم، إلى الحرب البريّة، بالإضافة إلى حصار مطارها وشلل مدنها وتكبّدت خسارةً فادحة جديدة؛ الجنود والضباط الإسرائيليون صاروا يُقتلون بالجملة. حينها، صارت الأنفاق هدف حملة "الجرف الصامد" بدلاً من الصواريخ. الفرق بين الهدفين أن الأنفاق ليس لها عند إسرائيل منظومة "قعرٍ حديدي"، يحتمي بها جيش الاحتلال.

لم تكن الهزيمة الأخلاقية التي مُنيت بها حكومة نتنياهو أخف وطأةً من تلك العسكرية، فأي عارٍ أشدّ على جيشٍ يرتدي أبناؤه البزة العسكرية من حربٍ قتلاها مدنيون عُزّل، وقصف هذا الجيش مدارس الأمم المتحدة، والجامعات، ودور العبادة، والمشافي والبنى التحتية، وجمعيات رعاية المسنين، ونيرانه المجنونة التي أدّت إلى مسح بيانات 69 عائلة غزيّة من السجلات المدنية، لاستشهاد كل أفراد هذه العائلات، و35% من جرحى القطاع هم من المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة، ألا يكفي جيش نتنياهو عاراً أن طائراته قصفت أطفالاً بتهمة اللعب على الشاطئ!

في المقابل؛ ظهرت المقاومة الفلسطينية بصورة مشرفة، رشيدة، ترفع الرأس، لم تقتل غير جنود الاحتلال وضباط جيشه، والتزمت بأكثر من هدنة إنسانية. بينما تولى نتنياهو، من حيث يدري ولا يدري، مهمّة كشف الوجه الحقيقي لدولة الاحتلال، الذي عملت كل حكومات إسرائيل منذ نشأتها على تجميله.

هذا المشهد المتلاطم انعكس مباشرة على الحراك الحزبي والسياسي الداخلي الإسرائيلي؛ فاجتمع الرأي عند نخبة من قادة الرأي العام هناك على مطالبة نتنياهو بضرورة سحب قواته البرية، ليس حرصاً منهم على حق أطفال غزّة في الحياة طبعاً، ولكن "لأن هذه القوات موجودة فقط لتَقتُل، وتُقتَل بلا هدف محدد واضح، هكذا قالت صحافتهم".

"إنها مهمة وستفاجئ كثيرين"، بهذه الكلمات وصف نتنياهو العلاقات التي تربط الكيان الإسرائيلي بالحلف الإقليمي الجديد، أو القديم الجديد، وأضاف، في مؤتمر صحفي مشترك مع موشي يعلون، "العلاقة المتميزة التي نتجت مع دول المنطقة، هي، أيضاً، ذخر مهم لدولة إسرائيل"، وهنا افترض موقع "والاه" العبري أن عبارة نتنياهو تحتاج شرحاً وإيضاحاً للشارعين، العربي والإسرائيلي، فنشر ما نصّه "الأهم في البيان الذي أعلنه رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أمس، هو التحالف الجديد في منطقة الشرق الأوسط ضد الإخوان المسلمين، تحالف يشمل مصر السيسي والسعودية والأردن والإمارات".

كيف نفهم إصرار هذه الدول، وفي مقدمتها مصر على مبادرة قدّمتها، بغرض ليّ ذراع المقاومة لإجبارها على التوقيع على تهدئةٍ، لا ترفع الحصار القاتل ببطء، وتربطه بالاستقرار الأمني الذي قد لا توفره إسرائيل لأهل غزّة ابداً؟ وبأي منطق تريد هذه الدول أن تصف المقاومة أعمالها بالعدائية، وأن تتعهّد بإيقافها، جواً وبحراً وبراً وتحت الأرض؟ وكيف نفهم رفض إسرائيل نفسها كل ما قدّمه كيري من أفكار وإصرارها على مبادرة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وإصرار المعتدلين عليها في الوقت نفسه؟

ونعتقد أن الهزّات الارتدادية لانتصارات المقاومة على أرض غزة، وصلت إلى طهران والضاحية الجنوبية في بيروت، وأوصلت رسالة بليغة، مفادها أن المقاومة الفلسطينية قادرة على الصمود والمواجهة الملحمية والانتصار، بوجود طهران وحزب الله، أو بغيابهما.

وفي الحديث عن هذا المحور، لا بد من التفريق، على صعيد التعاطي مع الحرب، بين حزب الله وإيران من جهة، والنظام السوري من جهة أخرى، وهذا ينظر إلى غزّة ومقاومتها من خلال مواقف الفصائل الفلسطينية من الثورة السورية، وكان بشار الأسد قد أعلن موقفه "المستجد" من المقاومة الفلسطينية، في خطاب القسم، حينما طالب بالتمييز بين "مقاومين حقيقيين ندعمهم، وهواة يلبسون قناع المقاومة لتحسين صورتهم وتثبيت سلطتهم"، والكلام هنا موجّه لحركة حماس التي وقفت مع مطالب الشعب السوري.

من جهةٍ، لا يستطيع خطاب نظام دمشق التنكّر للقضية الفلسطينية، لاعتباراتٍ داخليةٍ، تتعلق بحالة الاستحضار الدائم للعدو الإسرائيلي. ومن جهة أخرى، لا يتمنى أي نقطة تزيد رصيد حركة حماس، ومن جهة ثالثة، فإن الفصائل الفلسطينية المحسوبة على نظام الأسد ليس لها أي وجود فاعل على أرض غزة.

الموقف بالنسبة لإيران وحزب الله مختلف؛ فقد اتصل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، برئيس المكتب السياسي لحركة حماس، خالد مشعل، وأكّد وقوفه مع المقاومة الفلسطينية، وإن جاء الاتصال متأخراً، وتأييده شروطها لإنهاء المعركة، وكذلك فعلت طهران باتصال وزير خارجيتها بمشعل. مع ذلك فإن حزب الله وإيران كانا يتمنيان أن تكون حماس أضعف من ذلك، لتسارع بطلب العون منهما، ولتكون على استعداد لتقديم تنازلات في الشأن السوري، غير أن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن فلسطين برمّتها لم تعد قائمة في الأجندة الإيرانية، ومنها أجندة حزب الله، فكل الجهد والخبرة والبنادق استنزفت في سورية قبل العراق.

BE3988EA-5842-4814-A82D-BA2FD43F7CB2
BE3988EA-5842-4814-A82D-BA2FD43F7CB2
محمد منصور (مصر)
محمد منصور (مصر)