غزة ... حسابات الموت والنجاة

غزة ... حسابات الموت والنجاة

12 يناير 2016
(نيويورك: مؤسسة نيشن بوكس، 2015)
+ الخط -
قطعة صغيرة من الأرض يزدحم عليها ما يقارب مليوني شخص ولا تمتلك أي موارد ويحيط بها أعداؤها من كل جانب، تلك هي غزة، الأرض التي قُدِر لها أن تصبح دولة، لها حكومة وجيش وشرطة وشعب، وتخوض حروباً متعددة في غضون سنوات قلائل.

يقول داني ياتوم، الرئيس الأسبق للموساد حول العدوان على غزة "لم يكن الهدف القضاء على حماس، بل فقط إلحاق ضرر كبير بها، ولا أعرف إن كان ردع حماس قد تم أم لا؟".

بعد آلاف القتلى من الجنود والمدنيين، الأطفال والنساء والشيوخ، وإصابة أكثر من 11000 شخص ثلثهم من الأطفال وكثير منهم بعجز دائم، إضافة إلى تدمير 18000 منزل. يروي "ماكس بلومنثال" قصة العدوان الإسرائيلي عام 2014 على غزة، أو حرب" الجرف الصامد" حسب تسمية الاحتلال الإسرائيلي، وتظهر موضوعية الكاتب في عدة مواضع، فبداية يستوقف القارئ وصفه حماس بالمقاومة، رغم أن الأدبيات الغربية تتحاشى ذلك، لكن مؤلف الكتاب له رأي آخر في ما يتعلق بالمنطقة.

متلازمة الرزق والموت
يقول الكاتب "إن أول ما يراه زائر غزة عبر معبر بيت حانون، هو رشاش آلي يُتحكم فيه من بعد، يعلو جداراً خرسانيا على امتداد البصر، وأول ما يسمعه الزائر هو أزيز الطائرات الإسرائيلية من دون طيار التي تحوم بلا انقطاع فوق غزة، وتشكل الخلفية الصوتية لكل من يعيش في القطاع". في الفصل الأول يروي الكتاب مظاهر المعاناة في كل نواحي القطاع، فمن الخوف الدائم من سوء تفسير أي تصرف أو تجمع، حيث تتساقط على الرؤوس قذائف طائرات هيرميس 450 الآلية، إلى مخاطر الاصطدام بالبحرية الإسرائيلية فإذا طارد الصيادون سرباً من السردين، فهم محصورون بثلاثة أميال فقط يعمل فيها مئات الصيادين لينتزعوا رزقهم من براثن الموت. ثم المزارعون الذين يبقون أعينهم موزعة بين محاصيلهم وبين فوهات الرشاشات الأوتوماتيكية حتى لا يقعوا فريسة لطلقاتها التي تغطي منطقة يسميها الإسرائيليون "المنطقةَ العازلة" وهي بعرض 300 متر وبطول الجدار الفاصل مع القطاع.

بداية النار
اختُطِف ثلاثة مراهقين يهود، تمكن أحدهم من الاتصال بالشرطة والإبلاغ عن خطفهم، ولم تعر الشرطة الأمر اهتماما ظنا منها أنه مزاح طفولي، أصاب الخاطفون الهلع عندما عرفوا بما فعل الشاب الصغير وتعالى الصراخ ثم أعقبه إطلاق الرصاص، فقتلوا الرهائن ودفنوهم في إحدى المزارع القريبة.

عندما انكشف الأمر دخلت السياسة على الخط فورا مع تصعيد إعلامي وتهييج للرأي العام، ودقت طبول الحرب وانطلقت إسرائيل كلها تتبارى في اقتراحات الانتقام، وأصبح الفلسطينيون في حالة ترقب لما سيأتي، ثم كانت الطامة عندما استحسنت حماس الأمر وأثنت على الفاعلين، فمهدت الطريق ووفرت المبرر وأصبحت الهدف الأول للانتقام.

وبالفعل اندلعت الحرب، وبعد ثمانية أيام من القصف الجوي، وفي اليوم التاسع، كانت حصيلة القتلى قد بلغت حوالي 200 فلسطيني وفي المقابل قتل إسرائيلي وحيد في قصف لصواريخ حماس! ثم في الثاني عشر من يوليو وقعت وحدة من القوات البحرية الخاصة في شباك مجموعة من حماس، واضطرت القوة الإسرائيلية إلى أن تطلب إخلاءً جويا.

تمهيدا للمجزرة
في العشرين من يوليو/تموز وبعد تدفق جنود المشاة الإسرائيليين على حي الشجاعية، قال المتحدث العسكري أن حماس منعت المدنيين من إخلاء المنطقة، ويعلق الكاتب على ذلك قائلا "يبدو أن الذراع الإعلامي للجيش الإسرائيلي كان يمهد لسقوط عدد ضخم من المدنيين على أيدي القوات الإسرائيلية في تلك المنطقة". ويصف المؤلف المعارك والصدام الرهيب في الحي الصغير كثيف السكان، وكيف أظهرت فرق المقاومة ذكاء وشجاعة كبدت الجيش الإسرائيلي ما لم يكن يتوقعه، ولكن المدنيين دفعوا ثمنا غاليا بين الفريقين المتصارعين.

ثم يذكر الكاتب عدة وقائع لتلاعب الحكومة الإسرائيلية بإدارة أوباما، منها عملية اختطاف جندي إسرائيلي، وكانت مجموعة من حماس قد استخدمت أحد الأنفاق لمباغتة الجنود الإسرائيليين في القطاع وقتلت جنديين وأسرت الثالث، وتمت العملية قبل وقت قصير من سريان الهدنة التي عملت عليها الأطراف الدولية التي تدخلت في الأزمة، ولكن الجيش الإسرائيلي نقل معلومات إلى البيت الأبيض أن العملية تمت بعد ساعة ونصف من سريان الهدنة ما أغضب أوباما، وظهر ذلك عليه في حديثه إلى الصحافة في البيت الأبيض. قال الرئيس إن لديه أدلة قاطعة على خرق "حماس" والفصائل الفلسطينية الهدنة، رغم أن المعلومات عن العملية نشرتها خلايا القسام على حسابها على تويتر قبل هذا الموعد بساعات، كما أشار عدة شهود لوقوع العملية قبل الموعد الذي تحدث عنه أوباما.

شكل ذلك مبررا كافيا لتغطية دبلوماسية أميركية لما سيقوم به الجيش الإسرائيلي في رفح ردا على الخرق المزعوم للهدنة، فقد انهالت، كما يصف الكاتب، كل أنواع القنابل ووسائل التدمير على شرق رفح. وفي ظرف ساعات كانت مئات القذائف المدفعية والصواريخ قد انقضت حصرا على المنطقة الآهلة بالسكان.

بعد القتال والدمار انتهت حرب الـ 51 يوما، وكالعادة، عاد الفلسطينيون يحاولون ممارسة حياتهم وبناء ما تهدم، ورغم تقرير للأمم المتحدة صادر عام 2013، يتنبأ الكاتب في الفصل السابع عشر بأن قطاع غزة لن يكون قابلا للعيش بحلول 2020، إلا أنه بفضل هذه الحرب الأخيرة قد تصبح هذه النبوءات المرعبة واقعاً ملموساً.

(كاتب مصري)

اقرأ أيضا
الفلسطينيون وشتاء آخر

المساهمون