غزة.. انتصار في زمن الانكسار

استطاعت المقاومة الشعبية الفلسطينية أن تدحر العدو الصهيوني، وتفشل مخططه، باجتياح قطاع غزة، ونزع سلاحها، بفعل الضربات الموجعة التي تلقاها منها، بإطلاق الصواريخ التي طالت العمق الصهيوني، أو بالعمليات النوعية عبر الأنفاق، أو عمليات القنص لجنود الاحتلال. وهذا الصمود الباهر للمقاومة لما يقارب الشهر، في مواجهة أعتى قوة عسكرية في الشرق الأوسط، على الرغم من الإمكانات المتواضعة، جعل العدو الصهيوني يراجع حساباته، ويتخلى عن أوهامه بأن عملياته العسكرية ستكون نزهة لن تستغرق سوى بضعة أيام، وستحقق أهدافها المعلنة بتدمير الأنفاق، ووقف إطلاق الصواريخ ونزع سلاح المقاومة.
ما حصل أن العدو الصهيوني، ومعه القوى الداعمة له عربياً وغربياً، فوجئوا بشراسة المقاومة وصمودها، وانتقالها من الدفاع إلى الهجوم والمباغتة، والوصول إلى خلف خطوطه، في حين لم يجد جيش الاحتلال أهدافاً عسكرية للمقاومة لضربها، فسعى إلى الانتقام من المدنيين الفلسطينيين من الأطفال والنساء، بالقصف العشوائي للمباني السكنية والمستشفيات والمساجد والمدارس والأسواق. وأثارت هذه العمليات الإرهابية ردود فعل دولية غاضبة على الكيان الصهيوني، حتى من أقرب حلفائه، ولا سيما بعد استهداف جيش الاحتلال المدنيين العزل داخل مدارس "أونروا"، لكن الموقف القوي والمشرف هو الذي اتخذته دول في أميركا اللاتينية، حيث أعلنت بوليفيا إسرائيل دولة إرهابية، وقطعت علاقاتها بها، وسحبت تشيلي وبيرو والسلفادور سفراءها، وشكلت هذه المواقف الدولية ضغطاً على كيان الاحتلال، وزادت من عزلته الدولية.
في المقابل خاضت المقاومة، التي تتهمها الولايات المتحدة وحلفاؤها بالإرهاب، حرباً نظيفة، دافعت فيها ببسالة، وأبانت عن أخلاق قتالية عالية، لأنها لم تكن تستهدف المدنيين، ولذلك، كان جميع القتلى من العدو من المجندين، ما وضع جيش الاحتلال الصهيوني في موقف حرج ومأزق أخلاقي، انعكس على معنويات الجنود الصهاينة، بل على صورة هذا الكيان لدى الرأي العام العالمي الذي شاهد أعداداً كبيرة من المدنيين الذين، كانت تهدم البيوت فوق رؤوسهم، وحجم الدمار الذي أصاب المباني السكنية، والمنشآت الصناعية والتجارية والخدماتية. وهي أعمال لا يمكن وصفها إلا بالإرهابية، وتقع ضمن جرائم الحرب، وقد كان لهذا السقوط الأخلاقي لجيش الاحتلال أثره على القيادة السياسية التي أجبرتها ضربات المقاومة على سحب جنودها من غزة.
وكما كشفت حرب غزة الوجه الإرهابي للكيان الصهيوني، فإنها أسقطت ورقة التوت عما يسمى العالم الحر الذي يتغنى بالدفاع عن قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، عندما دعم الكيان الصهيوني العنصري في حربه العدوانية، وتركه يستفرد بالمدنيين العزل، ويرتكب أبشع الجرائم والمجازر ضد الأطفال والنساء. وهو ما يجعله متورطاً وشريكاً في المجازر، لأنه لولا الدعم المالي والعسكري والسياسي والدبلوماسي، لما كان الصهاينة ليجرؤوا على شن عدوان غاشم على أهل غزة، ويستمروا في حصارهم الجائر أكثر من سبع سنوات. لكن الموقف المذل والمخزي هو الذي اتخذته أنظمة عربية لها عداء تاريخي مع التيار الإسلامي، وانعكس عداؤها ذلك على موقفها من الحرب الصهيونية على الفلسطينيين في القطاع، معتقدة أنها حرب ضد حركة المقاومة الإسلامية - حماس، وتمثل هذه الأخيرة التيار الإسلامي في فلسطين، فوجدتها فرصة سانحة لدعم الكيان الصهيوني في حربه، ضاربة عرض الحائط بكل الأواصر الدينية والقومية والإنسانية والتاريخية التي تجمع بين الشعب الفلسطيني وشعوبها.
بمنطق الربح والخسارة، والانتصار والهزيمة، انتصرت المقاومة على جيش الاحتلال الصهيوني، وأسقطت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ولقنته دروساً في الأخلاق والقتال، لأنها خاضت إحدى معارك التحرير الوطني ضد احتلال غاشم لأرض وشعب، وإذا كان المقاوم يقاتل بشجاعة وتضحية، فلأنه يحارب من أجل قضية عادلة، أما الجندي الصهيوني فهو يقاتل من أجل قضية خاسرة، ويؤدي دوراً وظيفياً في الجيش، من أجل كسب المال. لذلك تجده خائفاً وعاجزاً عن المواجهة المباشرة مع رجال المقاومة. والقول إن المقاومة الفلسطينية انتصرت ليس كلاماً مرسلاً، صادراً عن شخص مناصر للقضية الفلسطينية، وإنما هي حقيقة اعترف بها مسؤولون ومحللون عسكريون وسياسيون صهاينة، وتداولتها الصحف العبرية، وكما يقول المثل العربي: "والفضل ما شهدت به الأعداء"، ومن هذه الشهادات، اعتراف رئيس وزراء حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو بفشل الجيش في جلب الانتصار للكيان الصهيوني. وحسب استطلاع للرأي، فإن 36% فقط من الإسرائيليين يعتبرون أن جيشهم انتصر، وهذا يدل على أن غالبية الصهاينة يعترفون بالهزيمة. وكتب المحلل الإسرائيلي شيمعون شيفر، إن أداء الحكومة وقيادة الجيش في أثناء الحرب على غزة كان مخيباً للآمال، وقد يورط إسرائيل بمحاكم دولية. وكتب محلل الشؤون العسكرية في صحيفة هآرتس، أمير أورن، إن الحرب الاسرائيلية على غزة، استنفدت أغراضها، وأن الجيش الاسرائيلي لا يستطيع تحقيق إنجاز حاسم، كما لن يكون في وسعه تحقيق أهداف الحملة العسكرية، وهذه هي الحقيقة المرة.
إذن، استطاعت المقاومة بصمودها أن تهزم جيش الاحتلال عسكرياً، لأنها صدّت عدوانه، وحالت دون تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب، وكبدته خسائر كبيرة في الجنود، حيث اعترف العدو بأنها تفوق، أربع مرات، عدد الجنود القتلى في حرب لبنان الثانية سنة 2006، وانتصرت، أمنياً، بكسر منظومته الأمنية وقصف العمق الصهيوني بالصواريخ، من دون أن تتمكن منظومتها الدفاعية، القبة الحديدية، من اعتراض معظمها، ما شكل حالة من توازن الردع، كما انتصرت استخباراتياً، لأن العدو فشل في الحصول على المعلومات الاستخبارية المتعلقة بالأهداف العسكرية للمقاومة، ومنها القادة العسكريون والسياسيون.
كل هذه الإنجازات النوعية للمقاومة أثارت تقديراً في الداخل الفلسطيني، وفي الخارج، ودفعت الرئيس الأسبق للولايات المتحدة، جيمي كارتر، إلى مطالبة بلاده بالاعتراف بحركة حماس وشطبها من قائمة المنظمات الإرهابية. ولم يسبق لدول عربية مجتمعة بجيوشها النظامية، أن حققتها في حروبها مع الكيان الصهيوني، ودائماً ما كانت تنكسر وتنهزم في مواجهته، وبذلك يشكل هذا الانتصار المستحق للمقاومة الفلسطينية شعلة مضيئة في زمن الهزائم العربية.