غرناطة كمال بُلّاطه وقدسه

غرناطة كمال بُلّاطه وقدسه

19 اغسطس 2020
تفصيل من "اثنا عشر قنديلاً لغرناطة" لكمال بُلّاطه (كتاب فنّي يدوي وقصيدة لأدونيس)
+ الخط -

في 6 آب/ أغسطس 2019 رحل في مدينة برلين الفنان والمؤرخ الفلسطيني الرائد كمال بُلّاطه بعد نصف قرن في المنفى. وبعد قرابة أسبوعين من الصراع مع سلطات الاحتلال تمكّنت أُسرته من نقل جثمانه ليدفن في مسقط رأسه، حيث واراه ثرى القدس عصر يوم 19 آب/أغسطس، وكانت أول عودة لشخصية ثقافية فلسطينية ترحل في أرض اللجوء. اعتُبرت عودة كمال إلى القدس بشارة عودة. الفنان اليوم ينام في ثرى بلاده وينتظر العائدين.

المحرِّر

 

أحبّ كمال بُلّاطه (1942 - 2019) مدناً عديدة في حياته. ولكن حبه الأول والأعمق كان لمدينة ولادته ونشأته القدس. وحبّه الجمالي المجرّد كان لغرناطة، المدينة الأندلسية التي تنام وادعة في ظل السييرا نيفادا على تاريخ مزركش بالإبداع والتراجيديا. هناك التقينا لأول مرة في قصر الحمراء عام 1998 خلال مؤتمر دعا إليه الشاعر السوري أدونيس.

جاء بُلّاطه‬ إلى ‫غرناطة‬ ليعرض كتابه الفني، "اثنا عشر قنديلاً لغرناطة" الذي رسمه بوحي من قصائد لأدونيس تستدعي قصر الحمراء. يكشف الكتاب الذي يشبه الأكورديون عن حساسية رهيفة تجسد الجمال الهش والناعم لقصر الحمراء. ويعكس تصميمه مع مقرنصاته المقصوصة في ورق الكتاب نفسه للدلالة على الانتقال من قصيدة إلى أُخرى، المقرنصات الجصّية المنمنمة في قصر الحمراء. يختزل عمل كمال بُلّاطه بسطوحه المشغولة هندسة الحمراء المعقدة وتلاعب الأضواء المنسابة على سطوحها المنقوشة أو المنعكسة على صفحات مياه بركها أو المتسرّبة عبر شبابيكها المفرغة. ثم يكمّل بُلّاطه كتابه الأكورديوني بمجموعة من اثنتي عشرة لوحة حريرية ملوّنة بألوان فرحة، متقاطعة عموديًا وقطريًا على شكل شرائح متناغمة.

الصورة
كمال بلاطة2 - القسم الثقافي
تفصيل من "اثنا عشر قنديلاً لغرناطة" (كتاب فنّي يدوي وقصيدة لأدونيس)

مشروع "القناديل" فرح وهش ودقيق بقدر جمال ونعومة ورقة موضوعه المعماري. وهو يعيد إلى الأذهان صدىً مغيَّباً لحيوات مرحة وسعيدة ومرتاحة البال وجدت في جنبات القصر وحدائقه المتناثرة ملعباً لمشاعرها وإبداعها ولهوها وربما مجونها أيضاً. كان هذا هو بالضبط ما اشتهر به قصر الحمراء في سنواته الذهبية، أي من منتصف القرن الرابع عشر إلى أوائل القرن الخامس عشر، كما يشهد به معماره المعقد والمدهش، المزنّر بالخُضرة والماء (والوجه الحسن طبعًا).

قفز فوق خمسة قرون من الرثاء لاستعادة جوهر غرناطة

وإذا كان لدى أي شخص شكٌّ في هذه القراءة لمعنى الحمراء؛ فما عليه إلا تتبع قصائد الشعر الغنائي الرائعة المنقوشة على جدران وأعمدة وأحواض ونوافذ وسواكف أبواب الحمراء والتي ألفتها ثلّة من الشعراء البارزين، على رأسهم ابن الخطيب وابن زمرك، خصيصاً للحمراء. فهما قد أدركا أن جمالاً خالصاً كهذا يستحق أن يُحتفى به بشعر رقراق عذب يُثير الخيال ويُلهم الفؤاد. وهو ما أراد بُلّاطه تحقيقه في قناديله التي شبهها هو نفسه بالشعر المخطوط في الحمراء عند تعانقه مع أشكالها البهيجة ليكمل اكتمال هذه الأعجوبة المعمارية عربية الطابع والطباع التي ما زالت مزروعة في خاصرة أوروبا الجنوبية بعد خمسة قرون من‫ سقوطها بيد الملوك الكاثوليك في عام 1492‬ ورحيل آخر ملوكها من بني نصر، محمد الثاني عشر، المعروف في الغرب باسم بوعبديل.

الصورة
كمال بلاطه - القسم الثقافي
كمال بُلّاطه

بُلّاطه لم يكن مهتماً باجترار حُزن الخسارة كما يفعل معظم العرب الذين يزورون الحمراء اليوم. فغرناطة التي ‫لا تزال تشهد على ذلك العصر الذهبي للثقافة الإسلامية قد دخلت ذاكرتنا الجمعية العربية على أنها المدينة الأخيرة في الأندلس. وهي قد ‬أصبحت تجسّد الاستكانة للمصير والحزن العميق واليأس الذي تمثله قصة نفي محمد الثاني عشر من غرناطة وتوقفه على تلّة تُشرف على المدينة والتفاته نحو قصره ليطلق تنهيدة عميقة أصبحت تعرف بـ "تنهيدة المور الأخيرة".

الصورة
كمال بلاطه - القسم الثقافي
"دجلة" 1، طباعة على الحرير، 28.5 × 28.5 سم (من معرض  كمال بُلاطه في "الحمراء" بغرناطة، 1996)

وعلى هذا فقد تذ‫كرها العديد من شعرائنا وكتابنا باعتبارها "الفردوس المفقود"، الذي لم نتمكن من الاحتفاظ به.‬ وظلّ الوضع على هذه الحال حتى فقدنا فلسطين في منتصف القرن العشرين. صارت فلسطين آنذاك الجرح النازف الجديد والخسارة الأخيرة الجديدة التي تشحذ ذكرى فقدانها الهمم وتؤجج المشاعر. وأصبحت غرناطة، ربما بسبب جمالها الأثيري وبعدنا الزمني المتزايد عن مأساتها، مكانًا هادئا للذكريات التي غالبًا ما يتم استحضارها عبر حنين مكتوم ورؤى مبالغ فيها للعظمة التي زالت.

بُلّاطه، الفلسطيني المنفيّ الذي حمل القدس في قلبه عندما جاء إلى غرناطة، لم يشأ أن يصوّر هاتين المدينتين اللتين شغف بهما عبر غلالة الحزن والاستكانة. لم يرد أن يتنهد تنهيدة أخيرة، بل قفز فوق خمسة قرون من الرثاء لاستعادة جوهر المكان ولاستحضاره نقياً وطازجاً اليوم. بُلّاطه أبدى في عمله ذاك فهمًا إنسانيًا عميقاً للماضي العربي - فهماً يرفض التنميط الديني لما هو في المحصلة تاريخ إنساني طبيعي بإيجابياته وسلبياته. وهو قد أدرك أن القراءات الانهزامية السائدة لذلك التاريخ نفسه غارقة في يأس المآسي المستمرة للحاضر العربي.

الصورة
كمال بلاطه - القسم الثقافي
"دجلة" 2، طباعة على الحرير،28.5 × 28.5 سم (من معرض  كمال بُلاطه في "الحمراء" بغرناطة، 1996)

ولذلك ظل كمال بُلّاطه، الفلسطيني المنفيّ والمتجول الذي قضى حياته البالغة بين لبنان والولايات المتحدة والمغرب وفرنسا وألمانيا، عربًيا قحاً من جيل شَعَرَ بالارتياح في المساحات الثقافية للغة والتاريخ والفن والموسيقى العربية. وهو قد أنتج في عمله على مدى عقود لغة فنية تستنبط من هذا الشعور الواسع بالانتماء، الذي اعتبر الإرث الثقافي الكلّي للعالم الإسلامي مصدرًا للإلهام، حروفاً مجرّدة، وشرائح ملونة مربَّعة ومتعرِّجة، وأشكالاً هندسية مختلفة تطفو بعفوية من أعماق ذلك التاريخ لتستقر على سطح لوحاته مكتسبةً معانٍ جديدةٍ على يد هذا الفنان الحساس.

الصورة
كمال بلاطه - القسم الثقافي
"دجلة" 1، طباعة على الحرير، 28.5 × 28.5 سم (من معرض  كمال بُلاطه في "الحمراء" بغرناطة، 1996)

كان اختراق الحقيقة الكامنة للأشياء هو الهدف الشمولي لفن كمال بُلّاطه، ليس فقط لأنه كان ملتزماً إنسانياً، ولكن لأنه كان أيضاً صوفياً حقيقياً رأى في جوهر الأشياء مظاهر الجوهر الواحد الذي يجمع كل الأشياء. وهو قد عبر عن ذلك في تجريد يعيد صياغة التناقضات العديدة التي صاغت رؤاه وأفكاره وإيمانه العميق بمشترك إنساني يمكن استقاؤه من تجارب القدس وغرناطة.

ففي اقتراح بحث قدمه عام 2010 إلى المؤسسة الأوروبية العربية للدراسات العليا بعنوان "غرناطة/القدس: رؤى متبادلة" كتب بُلّاطه: "إن غرناطة هي التي أدرك فيها العرب أكثر الصلات المشتركة بالقدس خاصة بعد نكبة فلسطين عام 1948.

مثل غرناطة، كانت القدس الأموية مدينة مفتوحة لمكوناتها متعددة الأعراق التي تعلّمت على مدى ثلاثة عشر قرناً علاقات الترابط بين الأديان. خلال الفترات التي كان فيها بقية العالم في حالة عربدة بسبب الفصل العنصري، حافظ الناس في غرناطة والقدس الذين تربوا على التسامح الديني في الإسلام على تقبل الاختلافات الثقافية. وعلى ذلك هل يمكننا في عالم اليوم المُعولم، الذي تطفو فيه الخطابات "المضادة للجمالية" و"ما بعد الجمالية"، التفكير بإنشاء جمالية تتناسب مع "الأخلاق الأندلسية"؟ هل يمكننا مقارعة التعصب الديني في أجزاء مختلفة من عالمنا اليوم بجعل الفن ثانيةً أداة للحوار بين الثقافات والأديان؟"


* مؤرخ معماري مقيم في الولايات المتحدة

المساهمون