غرفتي الحمراء

غرفتي الحمراء

09 مايو 2017
+ الخط -

الطقس الغائم هذا لا يوحي بمطر السماء بل بصراخ الأرض. تسيل الدماء من الشاشة إلى قلب الغرفة، يمتلئ المنزل باللون القاني وأي لون ذاك القاني: لا أبالي ولا يبالي أحد غيري في المنزل- الغرفة.
حتى وحدتي لا تبالي وتبقى وحيدة في وحدتها. الصورة الحمراء الآتية من التلفاز لا تبالي أيضا فتستمر في احمرارها دون أن تراعي ذوق المشاهد عن بعد. أما المشاهد عن قرب، فقد تبدل دوره من مشاهد إلى مشارك يموت بدور روتيني، أو شاهد يُقتل فيمثل آخر لحظة من حياته دون الترشح إلى جائزة أفضل دور ثانوي في مشهد الحرب الذي لا يملك أحد فيه دور المنقذ.

القاتل في المسلسل الواقعي أو المجزرة الواقعة لا يزال قوياً ومتماسكاً ويفرض شروط القتال وهو ما يوحي أن المسلسل- المجزرة لا يزال في بدايته، خاصة أن المنتفض الذي يخسر الكثير من لونه الأحمر لا يزال صامداً رغم وحشية القاتل، ويرسل معنويات عالية إلى محبيه من المشاهدين لتضحياته والفرحين بقدرته الخارقة على الاستمرار بالتضحية.

أمّلُ من تكرار مشهد الموت وتظاهر القاتل بالقوة وأتعجب من البطل الذي وإن مات يولد من جديد أين منه العنقاء وأسطورتها. أشيح بنظري عن الشاشة، وأدخل إلى الحمام. أفتح حنفية الماء تسيل الدماء منها بغزارة. لا أتفاجأ. أحمل منديلاً كي أنزع كثافة الدماء عن وجهي فإذا بالمنديل يقطر دماً لا أبالي فـ"في اللامبالاة فلسفة" يقول محمود درويش.

أعود بعد حمام الدم هذا إلى الغرفة. يا لتعاستي! الدماء في كل مكان، أوراقي حمراء كأنها رسالة عاشق شبق. شرشف الطاولة أحمر كثياب المحكوم بالإعدام، لوحة مفاتيح الكمبيوتر ترشح دماً كتمثال العذراء في جبيل، منفضة السجائر، طقس بوذي للراحلين عنا. النور في الغرفة يميل شيئا فشيئاً إلى الأحمر الخافت، إنها ليلة حمراء لا شك لا تخلو الأجساد منها. هناك أجساد في كل مكان، على الأريكة وفوق كنبة الزاوية، أجساد عارية من أصحابها ومن الحياة. يبتلعهم الموت في يوم واحد في غرفة واحدة ولا يغص المذيع بالرقم مائة مائتان ثلاثمائة هل من مزيد؟ لا ولكن غداً عددٌ جديد.

يضيق المكان بالجثث المتكاثرة من حولي، من زحمة الأرواح المعلقة في سقف الغرفة، من سيل الدماء المستمر دون توقف في نشرة الأخبار. أضيق أنا أيضاً ذرعاً بغرفتي، وأشعر بحاجة ملحة إلى الصراخ أو طلب النجدة. أفتح نافذة الغرفة أبحث في شارع المدينة عن من يمكن أن يتلقى صراخي فلا أجد سوى خيالي على رصيف من قلوب الحجارة أو حجارة في القلوب، وألمح هناك أناساً يمشون مطأطئي الرؤوس في أكياس من الرمال شفافة اللون! اللعنة، من أين أتت كل هذه الرمال إلى المدينة؟ لا أحد يسمعني، لا أحد يراني، سوى نعامة تجلس إلى جانب الطريق في المكان المخصص للمتشرّدين، تحمل لوحة كتب عليها "عاطلة عن العمل من قلة الرمال وسوء الأحوال".

أعود إلى الغرفة، يستمر فيض الدماء من سقف الغرفة، ويتصلب بارتطامه بالأرواح المبعثرة هنا في هذا الوقت، فينسل على شكل ثريا مائيّة تتمايل مع صوت المذيع المرتجف "نعتذر عن عرض المشاهد المفجعة وعن صور الضحايا احتراما لهم". لماذا لا تمتنع عن ذكر عددهم احتراماً لمفهوم الانقراض وشعور القاتل.

لا تقوى سجادتي الرخيصة الثمن على امتصاص الدماء المتدفقة من الأرض كبئر النفط. من مميزات هذا النفط الفاقع اللون دخوله القوي في بورصة الخطابة وبلاغة رجال الدين. ذهب أحمر يسيل في غرفتي، ولكنه لا يثير شهوة "أوبك" المصدرة ولا حفيظة الغرب المستورد. زهيد بخس هذا السائل يا سجادتي كصاحبك الهزيل البائس.

أغرورقت عيناني بدمع الدم جبهتي وجهي رقبتي، وهذا الفم يقطر لعاب الدم كلامي من أشلاء صوتي سكرات الموت، نظراتي لا ترى إلا معارك. يجتاحني الأحمر القاني مستسلماً له كعاصمة مهزومة إلا أن يدي لم تتلوث بالدماء بعد.

 

دلالات

383C61DC-8BA3-4025-AC08-81F7C5DD0AC9
وسام عبيد

مدون على مدونة صعلوك، درست العلوم السياسية وعلوم الأديان وأعمل في الصحافة التلفزيونية والإلكترونية

مدونات أخرى