غرائب عالم كشّ الحمام
عصام سحمراني ــ بيروت
بين فترة وأخرى، تمنع قوى الأمن الداخلي اللبنانية كشّ الحمام بالقرب من مطار بيروت الدولي، المطار التجاري الوحيد في البلاد. الحجّة الدائمة أنّ الحمام قد يعلق في محركات الطائرات باختلاف أنواعها. يؤكد مصدر أمني لـ"العربي الجديد" أنّها مجرد حجة لا أساس لها من الصحة، فهذا الأمر لم يحصل يوماً "لكنّ الدرك يستخدمونها من أجل مداهمة كشاشي الحمام، خصوصاً في قضايا السرقة والمخدرات. فمن المعروف أنّ لهم صلات ببعض العصابات إن لم يكونوا جزءاً منها"، بحسب ما يشير.

إذاً، سمعة كشاشي الحمام سيئة ولا يقتصر الأمر على أجهزة الدولة، بل يمتد إلى الناس العاديين الذين يتهمونهم اتهامات بعضها غريب وتقليدي، من قبيل عدم الاعتراف بشهادة الكشاش أمام المحكمة. مع ذلك يؤكد الكشاشون، أو بعضهم على الأقل، عكس ذلك تماماً. يشدد هؤلاء على مصداقيتهم في التعامل مع الآخرين في مختلف الأوضاع.

من هؤلاء جمال، الذي يملك أكثر من مائتي حمامة، في منطقة التحويطة بالقرب من المطار. يُعرَف عن هذا الرجل الأربعيني أنّه ساعد في إغاثة المصابين في أحد التفجيرات التي ضربت الضاحية الجنوبية، بل يؤكد البعض أنّه أخرج مصاباً من "تحت الردم" يومها قبل وصول المسعفين إلى المكان.

ومن هؤلاء أيضاً محمد عيتاني (34 عاماً) في منطقة الزيدانية في بيروت، أو على أحد سطوحها تحديداً. الشاب المعروف باسم "أبو رفيق"، بالرغم أنه غير متزوّج، يؤكد أنّه لا يفعل كما يفعل الكشاشون الآخرون من سرقة لطيور بعضهم البعض عبر الكشّات، أو ما يطلقون عليه اسم "الصيد". مع ذلك، يشير إلى أنّه في حال حدث الأمر يعيد الطيور إلى أصحابها.

كذلك، توقف عن بيع الحمام، في المقهى الذي يشكّل دور الوسيط وينال عمولة تعادل دولارين أميركيين تقريباً عن كلّ طير، لأنّ ما باعه عاد إليه: "عاد أحد الطيور من طرابلس (90 كلم إلى الشمال من بيروت).. أفضل الأنواع التي تحفظ طريق العودة البوز والقرنفلي والموصلي".

على المصطبة الملتهبة بشمس الظهيرة فوق شقة أهله الكائنة في الطابق الأخير، يجمع أبو رفيق حماماته في قنّ كبير مسيّج بشبك حديدي، ويترك بعضها حراً على السطح. يملك نحو 35 زوجاً، ويشير إلى حمامتين متروكتين على حريتهما. يقول لـ"العربي الجديد": "هذان فقسا قبل شهرين ولم يتعلما الطيران بعد.. سيتعبانني كثيراً عندما أبدأ تطييرهما مع الكشة.. لم أعرف جنسهما بعد.. لاحقاً سأعرف الذكر من صوته الغليظ".

الوصول إلى تلك المصطبة دونه سلم حديدي صدئ يرعب من يستخدمه سواء بسبب عدم ثباته، أو بسبب الأرض المفتوحة تحته على موت محتّم من طابق سابع. اعتاد أبو رفيق ذلك فهو دأبه اليومي. يطيّر كشّته المكونة من نحو ثلاثين حمامة يومياً صباحاً ومساء. لماذا يطيّرها؟ ببساطة "كي لا يثقل الطير ويصبح أكلاً ومرعى وقلة صنعة" كما يقول المثال الشعبي، وهو "ما يصعّب عليه الطيران فيصبح أشبه بالدجاج" يعلنها كإهانة للدجاج.



كشاشون كثر في محيط أبو رفيق، من بينهم شخص آخر من آل عيتاني، وثان من آل أبو العينين، وثالث من آل جواد يقول أبو رفيق إنّه "الأقوى بينهم" فلديه أكثر من 100 حمامة "لكن لا يطيّرها معاً بل يقسمها إلى أكثر من كشة على مدار النهار".

بالنسبة له يعتبرها تسلية. بدأ نشاطه فيها ما إن أنهى خدمته العسكرية الإلزامية عام 2003، عندما أهداه أحدهم حمامة واحدة، ومنذ ذلك الحين "اخترب بيتي بسببها". لا يفصح أكثر. لكنّه وهو الذي يعمل ليلاً مساعداً لصهره في إدارة مقهى إنترنت، ويعيش مع والدته وشقيق آخر بعد وفاة والده، يؤكد أنّه لا يرغب بالزواج أبداً بالرغم من أنّ الوالدة تدفعه في هذا الاتجاه.

يغذّي أبو رفيق حماماته تغذية طبيعية ولا يقدم لها بروتينات إضافية أو هورمونات كي تكسب الوزن أو تكبر بسرعة: "أطعمها ذرة بيضاء. أجلب كلّ 3 أيام 8 كيلوغرامات. صيفاً أطعمها القمح والذرة الصفراء. وإذا مرض الطير أعطيه أمبيسيلين (مضاد حيوي)". يعرف أبو رفيق بمرض الطير من ثقله وعدم قدرته على الطيران. لكنّ المرض ليس الحالة الوحيدة التي يمتنع فيها عن الطيران. فمن ذلك ما يتعلق بالإناث والتزاوج.

يقول أبو رفيق إنّ الصافرات تستخدم لدفع الطيور إلى الارتفاع أكثر. غالباً ما تكون الكشّة مؤلفة من الذكور فإذا ما أراد إعادتها إلى السطح، لوّح لها من هناك بحمامة أنثى. لديه ثلاث إناث قابلات للتزاوج، فإذا ما أراد ذلك حبس ذكراً مع إحداها ليلاً. وبذلك، تبيض الإناث مرة كلّ ما بين 15 إلى 20 يوماً. يترك أبو رفيق البيض للفقس. يشير إلى حمامة بيضاء ربط قائمتيها بشرائط حمراء، لكنّه تركها على حريتها بالرغم من أنّها كبيرة: "هذا ذكر من نوع الشفر، نتفت ريشه كي يلحق أنثاه دائماً ولا يتمكن من الطيران. وبالفعل، أدى ذلك إلى فقس فرخين منه".

لا يتعارك أبو رفيق مع أحد من جيرانه، بالرغم من أنّه كسائر الكشاشين يزعجهم بالصافرات، وكذلك بثمار الليمون التي يرشق الحمامات بها خلال طيرانها كي يتحكم بها ولا تنزل على سطح غيره. يرفض أن ينساق إلى أيّ إشكال مع أنّ البعض يضايقه بالتعليقات الـ"بلا طعمة"، خصوصاً عبر الهاتف. يعلق أبو رفيق: "نعم أفضّل الحمام، ولا أريد كلّ هؤلاء الأصدقاء".