عيد استقلال لبناني بنكهة مدنية: الوضع الحكومي يراوح مكانه

عيد استقلال لبناني بنكهة مدنية: الوضع الحكومي يراوح مكانه

22 نوفمبر 2019
تحوّل عيد الاستقلال إلى عيد شعبي حقيقي (حسين بيضون)
+ الخط -
كل ما في الحياة السياسية في لبنان يبدو في الأيام الأخيرة غير مألوف. لا أعياد الاستقلال تشبه سابقاتها، ولا الحياة السياسية التي يحاول الناس في الطرقات تصويب مسارها تشبه سابقاتها، وسط إصرار واضح من السلطة على إعادة إنتاج ما كان سائداً بوجوه جديدة. في عيد الاستقلال الـ76، اليوم الجمعة، بدا للمرة الأولى أن الحدث يكمن في استعادة الشعب للذكرى، لحساب استقلال جديد يريدونه تحت شعار "استقلالنا عن استغلالكم"، ولسان الحال في الشارع أنّ لا استقلال ناجزاً من دون بناء وطن، وهي المهمة التي يقولون إن الطبقة السياسية الطائفية فشلت فيها، بفعل مشاريع التقسيم والمحاصصة فيما بين أركانها، وإبقاء الشعب أسير الطوائف. كل ما احتفلت به الطبقة السياسية هذا العام بدا باهتاً أمام مشهد الساحات، من الشمال إلى الجنوب وراشيا في البقاع الغربي، حيث قلعة الاستقلال، وكذلك أمام مشهد التنوع اللبناني الذي تظهّر للمرة الأولى ليس وفق مقولة الطوائف الـ18، بل وفق تنوعهم المناطقي والمهني والاجتماعي حصراً، برز في العرض المدني للاستقلال، الذي شكل إعادة تصويب البوصلة الاجتماعية ــ السياسية التي كانت سائدة. 

وبدأت مراسم الاستقلال التي تقيمها الدولة سنوياً، بخطاب الاستقلال لرئيس الجمهورية ميشال عون، مساء أمس الخميس. لم تتضمن كلمته جديداً، ولا حتى التزاماً بالدستور اللبناني، ودعوة إلى استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس حكومة جديد وبالتالي تشكيل حكومة جديدة. لا يزال عون متمسكاً بالتوافق حول الحكومة قبل تكليف رئيس جديد لها، وهو ما يعده الشارع ضرباً للدستور. لم يقدم رئيس الجمهورية هدية في عيد الاستقلال، كان البعض يمنّي النفس بها، لو كانت على شكل حكومة إنقاذية.

في يوم الاستقلال، جرى احتفال لرفع العتب بعد إلغاء الاحتفال السنوي الذي يقام عادة في جادة شفيق الوزان في وسط بيروت. استُعيض عن الاحتفالات الكبيرة باحتفال رمزي في وزارة الدفاع في اليرزة (شرق بيروت) بحضور الرؤساء الثلاثة، عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، ورئيس المجلس النيابي نبيه بري. وبدا أن الخلافات بينهم ضربت العلاقة الشخصية، فبدا الحريري، المعارض لتشكيل حكومة تكنوسياسية، وحيداً، وسط تبادل للأحاديث بين بري وعون حصراً. كما بدت العلاقة بين الحريري وعون، وكأنها عادت إلى مرحلة ما قبل التسوية الرئاسية عام 2016، والأبوة المفترضة التي تحدث عنها مراراً الطرفان، فيما العلاقة مع بري لا تبدو أفضل حالاً، خصوصاً أن إلغاء الاستقبال الرسمي التي يجري عادة في القصر الرئاسي في بعبدا، بمشاركة الرؤساء الثلاثة، فرض إلغاء "الرحلة المعتادة" المشتركة في سيارة واحدة بين بري والحريري إلى القصر. عموماً لا جديد على حلبة السياسية والحكومة المنتظرة وسط مراوحة قاتلة يدرك الجميع أنها ليست لمصلحة الطبقة السياسية، لأنها تعمق الأزمة، وسط ضغوط دولية على لبنان لتأليف حكومة بأسرع وقت ممكن، وضغوط شعبية في الشارع داعية الى التسريع والالتزام بالدستور.

في الساعات الماضية ضغط "التيار الوطني الحر" لعله ينجح في الإفراج عن الحكومة في عيد الاستقلال، لكن المحاولة فشلت. لا الحريري قدّم تنازلات في شأن صيغة حكومة التكنوقراط التي يريدها للقبول بمهمة التأليف، ولا الثلاثي "التيار الوطني الحر" – حركة "أمل" – "حزب الله"، قدّم تنازلات في سياق صيغة حكومة تكنوسياسية. كل المخارج أمام هذه الأزمة تبدو مسدودة. فكرة رئيس الحكومة المنتمي إلى فريق "8 آذار" (التيار الوطني الحر وحزب الله وأمل) لا تزال مستبعدة خوفاً من رد فعل عربي ودولي، قد ينهي ما بقي اقتصادياً في لبنان، فيما سدّ الانسحاب العلني لمحمد الصفدي، والضمني لتمام سلام ونجيب ميقاتي، أفق إمكانية طرح اسم بديل من داخل الطبقة السياسية، لرئاسة الحكومة.



وبرز سجال بين التيار الوطني الحرّ وتيار المستقبل، إذ اعتبر وزير الدفاع في حكومة تصريف الأعمال، المحسوب على "الوطني الحرّ" الياس بو صعب، أن "لا شيء يؤكد أن الحريري لم يقبل بتكليفه ولا شيء يجزم قبوله"، وأضاف عقب العرض العسكري، أنه "عندما يكون هناك قرار واضح، يبدأ تشكيل الحكومة، ونأمل أن تكون الحكومة تشبه المطالب الشعبية وأن تكون قادرة على إنقاذ الوضع الاقتصادي". كلام بو صعب لاقى رداً عنيفاً من تيار المستقبل، الذي قال مصدر قيادي فيه إن "ما يؤخر التكليف والتأليف هو التمادي في إنكار المتغيرات التي استجدت على الساحة الوطنية، أما موقف الرئيس سعد الحريري فمعروف وتعلمه كافة القيادات ولا يحتاج لتفسير أو تأويل، ويبدو أن الوزير بو صعب خارج دائرة المعلومات لكن يمكنه الاطلاع على حقيقة الموقف والعودة إلى رئيس تياره (وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل)".

أمام هذا الواقع بدأ طرح أسماء من خارج نادي السياسيين. طرحت أولاً مجموعة أسماء ذات خلفية مصرفية لكنها سقطت سريعاً خوفاً من ردة فعل شارع يرفع شعار "يسقط حكم المصرف". طرحت أيضاً بعض الأسماء ذات الخلفية القضائية، لكنها كانت تفتقر إلى الخبرة والكاريزما اللازمة لإدارة هذه المرحلة. وحده اسم نواف سلام، الديبلوماسي الذي يشغل منصب قاض في محكمة العدل الدولية في لاهاي بعد أن شغل منصب سفير ومندوب لبنان الدائم في الأمم المتحدة، لاقى قبولاً من أطراف عدة، من بينهم الحريري، لعوامل عدة، أهمها الانتماء إلى عائلة بيروتية معروفة. وهو عامل أساسي في اللعبة السياسية اللبنانية، إضافة إلى أن لسلام علاقات دولية جيدة، نسجها منذ كان سفيراً للبنان في الأمم المتحدة، كما كان يعتبر أحد أبرز سفراء لبنان في العقود الأخيرة وهو مقرب من رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، المقرب بدوره من الحريري.

فعلياً يقول العارفون بما طرح في الأروقة السياسية أن نواف سلام أفضل من طرح على صعيد الأسماء ومن الممكن أن يشكل نقطة تلاقٍ، خصوصاً أنه خاض معارك أساسية في الأمم المتحدة إلى جانب القضايا العربية وكذلك قضايا لبنان خصوصاً في فترة العدوان الإسرائيلي على لبنان في يوليو/تموز وأغسطس/آب 2006، إلا أن التحفظ الأساسي رفعه "حزب الله"، الذي يبدو أنه ينظر إليه بعين الريبة نتيجة علاقاته الدولية هذه التي تبدأ من لاهاي ولا تنتهي في نيويورك. بالتالي يعتبر وصول سلام إلى رئاسة الحكومة انتصاراً لمحور دولي ــ إقليمي على حساب محور دولي ــ إقليمي آخر.

وبعد الفيتو الذي وضعه "حزب الله" على اسم سلام بات المشهد السياسي في لبنان أسير اللعبة التقليدية فيه، التي عادة ما تبقي البلاد في فراغ لأشهر طويلة، بانتظار توافق الأحزاب الممثلة للطوائف على مخرج ما. وهو ما يتوقع أكثر من مصدر مطلع أن يتكرر اليوم على الرغم من ضغط الشارع، لكن في المقابل ثمة مخاوف جدية من تطور الأمور وحركة احتجاج الشارع في حال لم تلبِّ الطبقة السياسية مطلب الشارع في تأليف الحكومة سريعاً.

وعلى الرغم من إدراك الجميع لخطورة الوضع وأن سيناريو البقاء في فراغ حكومي لأشهر طويلة لم يقبله الشارع هذه المرة، إلا أن حسابات الأطراف مختلفة، وخصوصاً أن الحريري يعتبر نفسه يقدم خطاباً أكثر قرباً من مطالب الشارع. بالتالي إن الأطراف التي تصر على حكومة تكنوسياسية عليها أن تدرك أن هذا الخيار ساقط تماماً مثل خيار محمد الصفدي الذي رفضه الشارع، في المقابل يبدو الثلاثي في "8 آذار" متمسكا بما يعتبره توازناً سياسياً فرضته نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة (جرت في عام 2018)، على الرغم من تخوف البعض من تحرك الاحتجاجات مجدداً باتجاه العهد بوصفه الجهة المسؤولة عن احترام وتطبيق الدستور، وبوصفه ممتنعاً حتى الآن عن دعوة النواب إلى الاستشارات تحت حجة التأليف قبل التكليف.


دلالات