Skip to main content
عودة متخيّل الخلافة
كمال عبد اللطيف
كتب محمد أركون، في منتصف ثمانينيات القرن الماضي (1984)، بحثاً عن علمانية مصطفى كمال أتاتورك، حاول فيه تأمل نتائج التجربة الكمالية في تركيا المعاصرة وأبعادها، وهي تجربة سياسية جرت على أرض الإسلام. وقد استوقفني في دراسته ملاحظتان، تساءل في الأولى عن سبب عدم مواصلة فكر النهضة العربية عند علي عبد الرازق، في موضوع الإسلام وأصول الحكم. وتساءل، في الثانية، عن الموانع التي حالت دون عناية النخب السياسية العربية بالثورة الكمالية ونتائجها، خصوصاً أنها كانت الأقرب إلى أفقها النهضوي ومحيطها الثقافي والاجتماعي.
تذكّرت في غمرة غزوات تنظيم داعش وأفعالها ملاحظات أركون، كما تذكرت شعوره الحاد بالأسى من الانقطاع الحاصل في هذا المجال، حيث لا نزال نفتقر في فكرنا المعاصر إلى كتابة تاريخ جديد للسلطة وأنظمة الحكم في التاريخ الإسلامي، الأمر الذي يسهل على دهاقنة التوظيف السياسي للدين، الهجوم المتكرر بأسلحة فاسدة على تاريخنا ورصيدنا الرمزي.
انتبهت إلى كل ما سبق، وقد مر على كتاب الشيخ علي ومحاكمته تسعة عقود كاملة، عرف فيه العالم العربي انفجارات وتحولات، واكبتها وعززتها جهود في الفكر والممارسة. ومع ذلك، تجد مواقفٌ ولغاتٌ معينة مَوَاقِعَ لها وسط المعترك التاريخي لمجتمعاتٍ، تصبو منذ عقود إلى القطع مع نظام في الحكم، لم يعد مناسباً لمتطلبات الأزمنة الجديدة، وفتوحاتها السياسية والمعرفية والتقنية، فتعلن، من هذه المواقع، تعلقها مجدَّداً بالخلافة وأمجادها.
تناول نص الإسلام وأصول الحكم ثلاثة محاور كبرى بروح وضعية، حيث بدأ من محور الخلافة والإسلام، لينتقل، بعد ذلك، إلى موضوع الحكومة والإسلام، ويختتم مقاربته بمحور الخلافة والحكومة في التاريخ، إلا أن أهم ما توقف عنده، ودافع عنه بكثير من الوضوح
والحماسة، هو حاجتنا الشديدة والملحّة إلى ضرورة الاحتكام في مجال السياسة والشأن العام إلى ثلاثية أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة.
فقد بدا له أن الثلاثية المؤسسة للعمل السياسي في التاريخ لا تخرج عن مقتضيات العقل وأحكامه، كما لا تخرج عن تجارب الأمم في التاريخ، ومن دون إغفال قواعد ودروس السياسة والعمل السياسي. أعلن علي عبد الرازق، في نصه الشهير، المآثر المذكورة قبل تسعين سنة، وتجد المجتمعات العربية نفسها، اليوم، أمام أصوات تحلم بطوبى الخلافة مُجَدَّداً، تتعنَّى بها، وتتطلع إلى نظام في الحكم على نمط مُتَخَيَّلِ الخلافة، كما رسمته الروايات التي واكبت الفتوحات الإسلامية وغزواتها. والسؤال الذي يطرح، هنا، لماذا تتمتع بعض الأوهام بحضور تاريخي، أكثر صلابة من الوقائع التاريخية؟
اقتنعت في غمرة انشغالي بسؤال النهضة العربية، أن جهود الباحثين العرب في موضوع السياسة والمجال السياسي طوَّرت مباحث علي عبد الرازق، من زوايا أخرى، تناسب الطفرة المنهجية التي حصلت في مقاربة الظواهر الإنسانية، حيث يمكن النظر إلى أبحاث كثيرة لمحمد أركون في مجال الإسلاميات التطبيقية، باعتبارها محاولات مهمة، في باب قراءة وتعقُّل كثير من جوانب تاريخنا السياسي، فكراً وممارسة. كما أن خاتمة الجزء الثالث من رباعية نقد محمد عابد الجابري للعقل العربي تقدم خيارات مفيدة في باب نقده ومحاصرته العقل السياسي السائد، والمهيمن في المجتمعات العربية، وفي الإنتاج الثقافي داخلها. ضمن هذا الإطار، دعا الجابري إلى ضرورة تجاوز بقايا القبيلة والغنيمة وسلطة العقيدة في حاضرنا، نحو مجتمع جديد تسود فيه حرية الرأي والعقيدة.
تتواصل جهود مماثلة لكل ما سبق ذكره، على سبيل التمثيل فقط. ومع ذلك، ترتفع أصوات العودات المشحونة بوعي محافظ، للتغني بدولة الخلافة وتطبيق الحدود.
لا أدري بأي لغة يتحدث الذين يرفعون، اليوم، شعارات دولة الخلافة الإسلامية؟ ولا أفهم كيف تُسوِّلُ لهم أنفسهم الاصطفاف دفاعاً عنها؟ ويبدو لي أن في الأمر الذي سطَّرنا في صيغة استفهام ما يبرره، ذلك أن المسافة الزمنية بين نهاية زمن الخلافة وواقعنا الراهن، وما تخلل تسعة عقود من أشكال التفاعل الحاصلة داخل مجتمعاتنا، طوال العقود المذكورة، يضعنا أمام موقفٍ يصعب فهمه، كما يصعب التأكد من المرامي التي يحيل إليها. فإذا كان مبتكرو شعار دولة الخلافة الإسلامية يلوحون به، في زمن يتميز بمكاسبه الكبرى في المعرفة والتقنية والسياسة، فكيف ينشأ في قلب هذا كله، وبجانبه، شعار العودة إلى دولة الخلافة، ليحارب باسمها مجتمعاته ومجتمعات العالم أجمع؟