عودة إلى دلالة مبدأ "من عدوّ إلى محبّ"!

عودة إلى دلالة مبدأ "من عدوّ إلى محبّ"!

02 مايو 2016
(تصوير: والتر ببيكوف)
+ الخط -

بالتزامن مع مرور خمسة أعوام ونيّف على ثورات "الربيع العربي"، من الطبيعي أن نتساءل عن جوهر نظرة إسرائيل إلى هذه الثورات، وعن أبرز "الاستخلاصات" التي توجهها فيما يتعلق بتأثير ذلك على صراع الصهيونية مع الشعب الفلسطيني وحقوقه وعلى مستقبل القضية الفلسطينية.

بدايـةً تتيح لنا مطالعة آخر القراءات الإسرائيلية في هذا الشأن، وخاصة من جانب شخصيات مقربة من المؤسسة السياسية في دولة الاحتلال، إمكان رسم الحصيلة الناجزة حتى الآن لهذه الثورات من وجهة نظر تلك المؤسسة ضمن الإيجاز التالي:

"الشرق الأوسط تغيّر تقريبًا بشكل جذريّ بحيث أصبح من الصعب التعرّف عليه. فدول عربية كان مصدر حدودها وتركيبتها السكانية التقسيم الاستعماري في منتصف القرن الفائت، تبدو الآن مختلفة تمامًا. وتغيّر التوازن بين الدول العربية كليًا. وبدأت تتشكل أمام أعين علماء السياسة تحالفات كانت تبدو إلى وقت قريب ضربًا من الخيال. وتراجع الاهتمام بالموضوع الفلسطيني إلى الصفحات الأخيرة في الصحف العربية، هذا إن ذُكر أصلًا".

الإيجاز السالف مقتبس بوحي مما يقوله أحد الدعاة السياسيين لرئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو، وظهر في مقال جديد له في الصحيفة اليومية التي تعتبر لسان حاله ("يسرائيل هيوم").

وتتماشى معه تقديرات متطابقة ضخّتها وما تزال معاهد أبحاث في الفترة الأخيرة، في مقدمها التقدير التالي الذي ورد في إطار التقرير السنوي الأكثر جدة لـ"معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب ("التقرير الإستراتيجي لإسرائيل 2015- 2016") وفحواه ما يلي:
"لا تزال الهزة الإقليمية التي بدأت سنة 2011 بعيدة عن بلوغ نهايتها، ويبدو أن سنوات عديدة ستمر قبل أن تعود منطقة الشرق الأوسط إلى الاستقرار. ثمة دول عربية تعاني من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. وقد بلغت حالة عدم الاستقرار في خمس دول منها درجة تفكك الدولة وفق تقسيمات مذهبية، طائفية، دينية، قومية، قبلية، بل وتجاوزت ذلك إلى حروب أهلية أيضًا. ومكان الدول التي كنا نعرفها حتى سنة 2011، وبدلًا منها وإلى جانبها، أخذت تظهر كيانات وعناصر قوة جديدة لا تنحصر هوياتها في قومية محددة أو دولة عينية. وتحوّل الشرق الأوسط إلى منظومة مركبة ومتعددة المكوّنات واللاعبين من سياسة الهويات المسلحة والعنيفة، وإلى حلبة صراع وحروب بين قوى عظمى إقليمية، من خلال وكلاء. بل تحولت هذه الدول، في بعض الحالات، إلى ساحة تدخل مباشر من جانب قوى عظمى دولية. وفي سورية، العراق، اليمن، السودان، ليبيا، تستعر حروب أهلية شرسة، حيث نرى في الحالتين الأوليين (سورية والعراق) تدخلًا مباشرًا من جانب قوى عظمى إقليمية وأخرى عالمية على حد سواء. ومن الصعب الافتراض بأن هذه الدول ستكون قادرة على استعادة وحدتها الداخلية في المستقبل. ربما تغدو التجزئة في بعضها واقعًا ثابتًا ودائمًا غير مستقر، وربما تنشأ في بعضها الآخر أطر فيدرالية هشة، إذا ما كانت الغلبة من نصيب الإصرار على الإبقاء والمحافظة على حدود وهويات دولتيّة سابقة".

وجرى التباهي في خاتمة هذا التقديـر بالإدراك الواسع والمتزايد في العالم، بل وفي الشرق الأوسط أيضًا، بأن القضية الفلسطينية ليست العامل المركزي المسبّب لأمراض المنطقة ومآسيها، وهو ما يفتح الباب أمام إسرائيل لعقد تحالفات ممكنة مع أطراف في العالم العربي جرى وصفها بأنها "براغماتـيـة"، ويسمح ببلورة إستراتيجية عليا شاملة، تتسم بكونها استباقية وفاعلة.

يصعب القول إن الحلبة الإقليمية لم تؤخذ في اعتبارات سياسة إسرائيل حيال القضية الفلسطينية منذ سنة 1948. بيد أنه منذ اندلاع الثورات العربية، يُلاحظ أن هذه السياسة على الصعيدين الدبلوماسي والأمني تستلهم أساسًا آخر التطورات الإقليمية، وهي مخصّصة أكثر شيء لـ"عدم الاستقرار في الشرق الأوسط" الذي برأي دولة الاحتلال سيستمر أعوامًا عديدة، وخلالها سيهدّد الإسلام المتشدّد السلام في المنطقة وأمن سكانها لعقد من الزمن أو أكثر على الأقل. وهي سياسة لا تطرح قطّ خطة مستقلة لتسوية الصراع.

وبمراجعة سريعة لـ"سياسة نتنياهو" فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، بالوسع رؤية أنها تقوم على أساس أن هناك حاجة- كقوله- إلى "تجديد النمط القديم الرامي إلى تحقيق السلام لجعله يأخذ الواقع الجديد (المقصود واقع عدم الاستقرار الإقليمي) بعين الاعتبار، وكذلك الأمر بالنسبة للوظائف والمسؤوليات الجديدة التي يتحملها العرب". كذلك فهي تقوم على أساس أنه إذا كان "كثيرون يرون منذ فترة طويلة أن السلام الإسرائيلي الفلسطيني قد يساهم في دفع المصالحة الأوسع نطاقًا بين إسرائيل والعالم العربي، فإن الأمر يسير حاليًا في الاتجاه المعاكس، إذ إن المصالحة الأوسع نطاقًا بين إسرائيل والعالم العربي قد تساهم في دفع هذا السلام"، كما لا يني نتنياهو نفسه يؤكد. وهو يكرّر في الآونة الأخيرة أن "البقرة المقدسة" التي كانت تعتبر أن جوهر الصراع في الشرق الأوسط يعود إلى القضية الفلسطينية، أصبحت واحدة من ضحايا الثورات العربية الحالية.

من ناحية أخرى مكملـة، لا تزال هذه السياسة تصرّ على مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بالدولة اليهودية، وتؤكد أن السلام لن يحلّ ما لم يفعلوا ذلك، وأن تحقيق السلام لن يتسنى إلا بعد اعترافهم بـ"حق الشعب اليهودي" في أن يعيش هنا في دولة سيادية أو دولة قومية خاصة به. في هذا السياق يعمل نتنياهو على الدفع قدمًا بسن "قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي".

كما دفع الكنيست سنة 2014 إلى المصادقة على قانون جديد يقضي بإجراء استفتاء عام قبل "التنازل" عن أراض خاضعة للسيادة الإسرائيلية بموجب القانون (القدس الشرقية وهضبة الجولان المحتلتان) في أي اتفاق سياسي يتم توقيعه في المستقبل. وهو قانون أساس ولذا يعتبر دستوريًا، ويهدف إلى التضييق على أي تسوية مع الفلسطينيين وإفشالها.

وبموازاة ذلك تطرح "سياسة نتنياهو" موافقة الفلسطينيين على ترتيبات أمنية بعيدة المدى وفي مقدمها بسط السيطرة الإسرائيلية على منطقة غور الأردن. ومع أن فكرة هذه السيطرة ليست جديدة، إلا إنها لم تُطرح بتاتًا فيما مضى كمطلب مركزي كما تُطرح الآن.

وتتعالى يومًا بعد يوم أصوات تؤكد أن "مشروع الاستيطان الصهيوني" في مناطق الضفة الغربية تحوّل إلى مشروع ضخم لا رجوع عنه تقريبًا، مع ما يعنيه ذلك من دلالة سحب البساط من تحت أقدام ما يسمى بـ"حل الدولتين". وبحسب أحد هذه الأصوات، ازدادت قوة المستوطنين السياسية بصورة كبيرة جدًا، ففي منتصف القرن الفائت كان من الممكن كبح المستوطنين، لكنهم باتوا اليوم يسيطرون على الحزب الحاكم، ويحركون خيوط الحكومة ويتحكمون في شؤون السلطة وكأنها ملك لهم. ولا يوجد اليوم أي حزب إسرائيلي مركزي يستطيع مواجهتهم، كما أنه ليس هناك زعيم باستطاعته التصدي لهم.

في هذا الجانب أستعيد مقولة لأستاذ العلوم السياسية في جامعة بنسلفانيا الأميركية إيان لوستيك، قال فيها إن احتمال اختفاء إسرائيل كـ"مشروع صهيوني" عقب حرب طاحنة أو إعياء ثقافي- اجتماعي أو تغيرات ديموغرافية، يبدو معقولًا بقدر احتمال القيام في المستقبل بإخلاء أكثر من نصف مليون مستوطن إسرائيلي يعيشون الآن فيما وراء خطوط 1967 أي فيما وراء الخط الأخضر، وهو برأيه إخلاء ضروري من أجل إتاحة إمكان إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة بموجب "حل الدولتين".


"من عدوّ إلى محبّ"

هذه العبارة هي عنوان قصة كتبها الأديب الصهيوني المنوبل شموئيل يوسف عجنون في أربعينيات القرن العشرين الفائت، ووصف فيها كيف أن الريح فقط هي التي تصدّت لمحاولات بطلها اليهودي إقامة منزل في أرض فلسطين، وكيف تمكن هذا البطل في نهاية المطاف من صدّ الريح وبناء منزله وإعلان سيطرته على الأرض التي هي من حقّه فقط. قصد عجنون في حينه الإيحاء بأن الفلسطينيين مجرد شيء من قوى الطبيعة وليسوا بشرًا لهم حق العيش في أرض آبائهم وأجدادهم. وفي خضم المواجهة التي خاضها البطل استحالت الريح من عدوّ إلى محبّ، لكن بعد أن فرض عليها أن تتهوّد!

بذا سكّ عجنون مقاربة مؤداها أن كل من لا يتهوّد يبقى عدوًا. ساسة الصهيونية وإسرائيل انتهجوا مقاربة شبيهة إزاء الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، مستمدة من مبدأ "الجدار الحديدي" الذي كانت غايته جعل الفلسطينيين يتخلون عن حقوقهم التاريخية والقومية في فلسطين.

ووفقًا لآخر تصريحات نتنياهو، ما يزال مبدأ "الجدار الحديدي" ساري المفعول، لا بل إن مفعوله الحالي أقوى من أي وقت مضى.


(كاتب وباحث فلسطيني/ عكا)



المساهمون