عودة إلى العمل ... تعايُش مع الفيروس

عودة إلى العمل ... تعايُش مع الفيروس

15 ابريل 2020
+ الخط -
الناس لا ينقصها مزيد من الهموم. لا التقليل من حجم كارثة كورونا يجدي، ولكن لا ضرورة لإضافة مسحات سوداء على المشهد القاتم أصلاً. أصبحت الحكاية بلا ألغاز: علينا التعايش مع الفيروس المقيم بين البشر، فلا هو موسمي، ولا موجة سرعان ما تنقضي. لا درجات الحرارة تميته ولا يفعل مرور الزمن إلا كشف مزيد من "خِصال" كورونا وقدراته العجيبة. أصبح فرداً أصيلاً في عائلة الأمراض المعدية التي تعرفها لائحة فيروسات تنمو باضطراد، جزئياً بسبب ما ارتكبناه ولا نزال بحق الطبيعة. التعويل كبير على الطب والعلماء لعلهم يجدون لقاحاً وعلاجاً سريعين، ولكن يُستشف من كلام أهل العلم أنه حتى ولو حصل ذلك، بعد 12 أو 18 شهراً (وفق بشرى منظمة الصحة العالمية)، فإن الإصابة بكورونا ستظل احتمالاً كبيراً بالنسبة لملايين البشر، بسبب سرعة انتقال الفيروس وتطويره نفسه باستمرار، وربما لأن اللقاح، إن وُجد، لن يكون في متناول الجميع. أما والحال كذلك، فما الحلّ في انتظار إصلاح أنظمة الرعاية الصحية وكسر احتكارات شركات الأدوية وتعميم حق الاستشفاء للجميع؟ 
مرّت أسابيع فقط على إجراءات الإغلاق في العالم، وها هي منظمة العمل العالمية تخبرنا بأن توقف دورة الاقتصاد أثر على ما يقرب من 2.7 مليار عامل حول العالم. منطقة آسيا والمحيط الهادئ وحدها قد تُلغى فيها 125 مليون وظيفة بدوام كامل على مدى الأشهر الثلاثة المقبلة. رقم لا يحتسب الملايين من وظائف وأعمال الاقتصاد الموازي "غير الرسمي" الذي لا تتعامل معه أرقام المؤسسات الدولية الرسمية. لا حاجة هنا للدخول بلغة اقتصادية مليئة بنسب مئوية لا تعبّر عن فداحة الموقف. فعبارات تقنية باردة من نوع أن النمو العالمي سيتحول إلى نسب سالبة للمرة الأولى في التاريخ منذ الكساد الكبير (نهاية عشرينيات القرن الماضي)، أو أن الانكماش الاقتصادي العالمي بلغ مستويات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، لا تعني شيئاً مقارنة بعبارات أكثر وضوحاً: ارتفاع نسب انتحار فقراء حول العالم لم يعودوا قادرين على توفير الطعام ولا بدل السكن. ازدياد صارخ لمعدلات سرقة مواد غذائية في المتاجر. ملاحظات كهذه تقدّم صورة مختصرة عن مأساوية الحالة العامة أكثر بكثير من إحصاءات رصد معدلات ركود الإنتاج: ازدياد أعداد ضحايا المجاعة وسوء التغذية والأمية والفقر والبطالة (الصريحة لا المقنعة)، يجعل من احتمال الموت بالمرض خياراً مفضلاً بالنسبة للمعنيين بالمفاضلة، بدل الموت جوعاً، ولتفعل السلطات ما تفعل لمنع خروج البشر إلى محاولة إيجاد عمل، وليتحدث القادرون على المكوث في منازلهم وبطونهم ممتلئة مثلما يشاؤون عن محاسن وإيجابيات الحجر المنزلي وحملات "ابقَ في البيت".
العودة التدريجية إلى العمل من دون انتظار لقاح وعلاج ليست حلاً وحيداً فحسب، بل سمّ لا مفر من تجرعه بالنسبة لمئات الملايين، وربما المليارات من البشر. خلاصة ربما يُفهم منها خدمةً للرأسمالية. ربما هي كذلك بالفعل، لكنها من نوع الخلاصات الحتمية التي لا بديل عنها مع ما تحمله من نتائج كارثية مؤكدة على ملايين ممّن لا تستطيع أجسامهم العليلة وأعمارهم المتقدمة مقاومة الفيروس وانتظار تكوينها مناعة طبيعية تمكنها من التعايش معه. وهل الرأسمالية مهددة إن طال زمن الإغلاق العام؟ ربما، لكن زبائن الرأسمالية وضحاياها، أي مليارات البشر من خارج فئة الواحد في المئة من أصحاب الثروات والشركات، هم أكثر عرضة للزوال جوعاً من احتمال زوال النظام الاقتصادي المتوحش. ربما تكون هذه أقوى جينات الرأسمالية: ربط مصيرها بمصير ضحاياها أنفسهم. شيء قريب من متلازمة استوكهولم: يا عمال العالم أنقذوني وعودوا إلى العمل وليمت من يموت منكم ومن مرضاكم ومن الطاعنين في السن من أهلكم، لكي يبقى بعضكم على قيد الحياة.
أرنست خوري
أرنست خوري
أرنست خوري
مدير تحرير صحيفة "العربي الجديد".
أرنست خوري