عهد المنفلوطي

عهد المنفلوطي

24 ابريل 2015
أيمن بعلبكي/ لبنان
+ الخط -

يسجّل ناجي نجيب، في "كتاب الأحزان"، أن بكائيات العرب في القرن العشرين، من المنفلوطي إلى محمد عبدالحليم عبد الله، إلى صلاح عبدالصبور، كانت تشير إلى إخفاقات الفئات والشرائح المتوسطة في المجتمع العربي.

وقد ذرف الآلاف من القراء العرب الكثير من الدموع، وهم يقرؤون "الفضيلة" أو "ماجدولين" أو "العبرات"، حتى سميت سنوات الحرب العالمية الأولى، وما بعدها، في مصر والعالم العربي بـ"عهد المنفلوطي".

غير أن الأمر لم يقتصر على الظاهرة المنفلوطية، إذ تجلى البكاء الذي سمي حزناً في مؤلفات كثير من الكتّاب العرب، فيبدأ القاص السوري ياسين رفاعية حياته الأدبية بمجموعة قصصية اسمها "الحزن في كل مكان"، و"العالم يغرق"، ويكتب فاضل السباعي رواية "ثم أزهر الحزن"، ومجموعة "حزن حتى الموت"، ويكتب إبراهيم ناجي بكائية الأطلال "اسقني واشرب على أطلالها/ وارو عني طالما الدمع روى".

بكى العربي منذ العصر الجاهلي أيضاً، وقد تجلى ذلك في المقدمات الطللية التي افتتح بها الشاعر العربي قصيدته. بدا البكاء في الشعر محايداً، أو وصفياً، يجعل من نفسه وسيلة تسجيلية يثبت فيها رحيل الحبيب، أو تخليه عن الحب، أمام التاريخ المحلي والكوني، أو أمام الناس الذين يعيشون اللحظة، أو أمام مجهول مضمر في المستقبل.

وفيما لا يزيد هذا البكاء، أو الاستبكاء، عن الشكوى، فإنه لا يستبطن رغبةً في إدانة أحد، أو مشروعاً لإقصائه، أو خطةً لتدميره. إذ لم يكن البكاء على الأطلال ناجماً عن مسبب يمكن الثأر منه، أو الانتقام من أفعاله، بل مال إلى اعتبار نفسه استجابة عاطفية لمقررات قدرية، أو بيئية، أو اجتماعية، تستهدفه شخصياً، وتتم دون استشارته، فيما يصعب عليه التحكم في مجرياتها.

ثمة بكاء آخر كان يريد الإقرار بالهزيمة، كأن يقف أبو عبدالله الصغير، آخر ملوك الأندلس، على أطلال غرناطة باكياً، في الموقع الذي سماه الإسبان في ما بعد "زفرة العربي الأخيرة". والغريب في الأمر أن أمه نددت بذلك قائلة: "ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً/ لم تحافظ عليه مثل الرجال"، متجاهلةً ذلك الركام من بكاء الرجال في التاريخ الشعري العربي. كأن البكاء في الشعر مجرّد مجاز لا يقتضي المحاسبة. ويميل كثير من المنظرين إلى القول إن البكاء في عاشوراء سياسي يهدف إلى الثورة على الطغيان، وهناك من يرى فيه استعداداً للثأر والانتقام من "ورثة" قاتل الحسين. وهنا يسعى البكاء إلى تحميل الحاضر المسؤولية عن أحداث الماضي.

يخشى أن يكون الحزن (والبكاء) قد تحول إلى بنية نفسية تتغلغل داخل الوجدان العربي، وقد زادت الإخفاقات المتكررة، وفشلت المشاريع الفردية والجماعية في صلابتها، بحيث بدا استقبال الدموع، ورواج المآسي، تعبيراً عن ذات ممزقة، وشخصية مبددة، تحاول أن تملأ فراغ الروح بروايات الحزن.

فيما لا يمكننا التكهن اليوم عمّا يمكن أن يحمل لنا المستقبل من أشكال المواجهة مع الحاضر، ما يتيح لنا أن نتساءل إن كان "عهد المنفلوطي" قد مضى فعلاً؟

المساهمون