.. عن مقتل إريك غارنر

.. عن مقتل إريك غارنر

16 ديسمبر 2014

تظاهرة في نيويورك ضد العنصرية وعنف الشرطة (4ديسمبر/2014/الأناضول)

+ الخط -

لم تمض أيام قليلة على قرار هيئة المحلفين، المعنية بقضية قتل الشاب الأميركي، مايكل براون، ذي الثمانية عشر ربيعاً، على يد شرطي في مدينة فيرغيسون في ولاية أريزونا، وما تبعها من غضب لدى شرائح أميركية واسعة من مختلف الأعراق والأصول، حتى تلقى أميركيون صدمة أخرى، بتبرئة رجال شرطة، قتلوا رجلاً آخر في نيويورك، منتصف يوليو/تموز الماضي.

كم هي محزنة وصادمة هذه القضية الموثقة بالفيديو. شرطة يعتقلون رجلاً أعزل، بطريقة غير إنسانية، بتهمة بيعه سجائر مهربة، وخنقه في أثناء تقييده، وهو بالكاد يردد "لا أستطيع التنفس، لا أستطيع التنفس، ... ". هكذا يموت أمام أعين الشرطة والمارة. مطلع أغسطس/آب الماضي، أقر الطب الشرعي بأن غارنر تعرض للقتل على يد رجال الشرطة، لكن هيئة المحلفين قررت، فجر الرابع من ديسمبر/كانون أول الجاري، أن الشرطي المتسبب في وفاة غارنر غير مذنب، تماماً كما حدث قبل أسبوع في قضية الشاب مايكل براون، الذي قتل في ولاية ميزوري على يد شرطي في أثناء اعتقاله.

غضب ملأ أميركيين كثيرين ممن يرون أنه لا يمكن أن تتكرر حوادث قتل مدنيين عزل، على أيدي عناصر من الشرطة، يفترض أن جوهر وجودهم هو حماية الناس وحماية مصالحهم من دون محاسبة أحد ما. استدعت القضية تفاعلاتٍ، تمثلت في مظاهرات وغضب واسع، ونقاشات جادة، كثير منها حاد، أظهرت كمّاً من الانقسامات حول النظرة لهذه القضية وأبعادها. تفاعل كثيرون من مشاهير الفن والرياضة والسياسة والإعلام عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كحملة #WeCantBreath المستوحاة من كلمات غارنر الأخيرة، قبل مفارقته الحياة و #BlackLivesMatter.

مؤكد أن هناك خللاً ما. هناك مشكلة كبيرة وعميقة، إنما أين تكمن؟ وكيف يمكن التعامل معها؟ واضح كذلك أن القضاء لم يحل المشكلة، وليس هو المعني بحلها. لربما لا يمكن تجريم شرطة بالقتل، لمجرد قيامهم بواجبهم بطريقة فظة، الشرطي أداة لتنفيذ القانون بصلاحيات يمنحها القانون. مع الأسف، هذه هي الحقيقة في دولة القانون. هل المشكلة في القانون؟

يرى بعضهم أن المشكلة الأساسية تكمن لدى المحافظين الذين يصرون على تطبيق سياسات رأسمالية، من شأنها ألا تعطي الحكومة الفيدرالية القدرة على التعامل مع مشكلات عديدة، تعاني منها الفئات المجتمعية الفقيرة التي أغلبها من الأقليات ذات الأصول الأفريقية أو اللاتينية، حيث يساهم الفقر في إيجاد بيئة ملائمة لانتشار الجرائم والمخدرات وقلة التعليم اللائق وإمكانية تحسين مستوى العيش بشكل مماثل لشرائح أميركية أخرى. يرى هؤلاء أن القضية الأساسية، هنا، أن المحافظين لا تعنيهم كثيراً حياة الفقراء الذين ينتمي كثير منهم إلى أقليات عرقية.

تعزز هذه الرؤية شواهد كثيرة، منها أن سياسيين وإعلاميين محافظين يسوقون حججاً سخيفة، لتبرير ما حصل لغارنر، كأن سبب وفاته سمنته، أو سجله من جرائم من النوع نفسه، أو أنهم يرون مبالغة في تسليط الضوء على هذه الجريمة، ومهاجمتهم ردة الفعل التي قام بها آلاف المتعاطفين مع غارنر؛ واتهامهم بعدم احترام الدستور والقانون، أو أنهم يستدعون الخطاب العنصري. (ربما تفسر مثل هذه الشواهد حصول مرشح الحزب الجمهوري، ميت رومني، على ما يقارب صفراً في المئة من أصوات الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية في الانتخابات الرئاسية السابقة).

لا يمكن إعفاء بعض المحافظين من مسؤولياتهم الأخلاقية، تجاه ما يحدث من شرخ مجتمعي، وتصاعد في الانقسامات، فكثيرون من هؤلاء يقدمون خطاباً غير مسؤول، يساهم في تأجيج الغضب، بدل تهدئته. كثير من هؤلاء يتناسى أن الأميركيين، ذوي الأصول الأفريقية، بالكاد خرجوا من عقود طويلة من الظلم والاستعباد. يتعامى بعضهم عن رؤية ألم يعتصر فقراء كثيرين، وخصوصاً من الأقليات التي لجأت هرباً من ظلم وقمع دولها إلى دولةٍ يحكى أنها بلاد الأحلام، ومعظمهم أتى من دول لم تمنحهم أملاً وحلماً.

لكن النظر إلى هذه القضية من منطلق وجود خلل في التركيبة المجتمعية، أو خلل طبقي، أو مظلومية ما، في حق فئات مجتمعية ما، وخصوصاً الأقليات، وأن النظام الرأسمالي الليبرالي هو أساس هذا الخلل، وجوهر هذه المشكلة، هو أمر أميل للمبالغة التي لا تطرح أي حل قابل للتطبيق، أو رؤية واضحة، يمكن الاستفادة منها في معالجة هذه القضية.

القوانين التي فرضت ضرائب عالية على السلع، ومنعت سلعاً أخرى من الاستهلاك والبيع، كالمارغوانا التي هي أقل ضرراً على الصحة من الكحول والوجبات السريعة، وتجمع بسببها عائدات ضخمة من الضرائب، لتدفع للآلاف من عناصر الشرطة، من أجل ملاحقة الذين يدخنون المارغوانا، أو يبيعون سجائر مهربة، لكي لا يدفعوا ستة دولارات إضافية، كضريبة على علبة سجائر واحدة. الدولة التي تدفع أموالاً طائلة على سجون ومعتقلات، معظم معتقليها من بائعي السجائر المهربة والحشيشة والمخدرات ومتعاطيها، كان في وسعها أن توفر ملايين الدولارات على مواطنيها، بسبب هذه الضرائب العالية، وكان بإمكانها ألا تعتبر إريك غارنر، وملايين غيره، مجرمين أو ملاحقين. القوانين التي أعطت صلاحيات واسعة لرجال الاستخبارات والأمن، وسلحت رجال الشرطة (في المقابل لا يحمل الشرطة في بريطانيا مثلاً أسلحة في أثناء قيامهم بواجباتهم). الدولة التي خصصت نسبة ضخمة من ميزانيتها للدفاع والجيش الذي يوجد في أكثر من تسعين دولة، ويحمي دولاً معدل دخل أفرادها لا يقل أو ربما يزيد عن معدل دخل الأميركيين.

المطالبة بسياسات أكثر اشتراكية، أو كما يصفها بعضهم أكثر عدالة اجتماعية، تعني حرفيّاً سن مزيد من القوانين المتشددة تجاه الأفراد، وتقليص حرياتهم بشكلٍ ما، وتجنيد مزيد من الأفراد لخدمة هذه القوانين، كجابيي الضرائب أو عناصر الأمن والشرطة والاستخبارات وموظفي الدوائر الحكومية المنفذة تلك القوانين بصرامة، وبالتالي فرصاً أكبر لارتكاب مزيد من الانتهاكات ضد مدنيين، كغارنر، وباسم القانون كل مرة، وفرصاً أعلى للفساد والنفوذ والاحتكار، إلى جانب التضييق المادي على المواطنين، بسبب سن ضرائب جديدة، لسد كل هذه الأعباء والتكاليف.

تحتاج هذه القضية للنقاش الجاد، لكن حلها يكون بمزيد من الحرية، وقليل من التعقيدات القانونية والبيروقراطية التي مهما بلغت جمالاً تلك الصورة التي تقدم بها، إلا أنها، في نهاية الأمر، تزيد الواقع قبحاً.

دلالات

avata
عمرو السراج

باحث سوري في المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية، ومسؤول العلاقات مع أسر الضحايا ومنظمات المجتمع المدني في الهيئة السورية للعدالة الانتقالية.