عن قيس سعيد والقيم العليا

عن قيس سعيد والقيم العليا

28 نوفمبر 2019
+ الخط -
يحضر الرئيس التونسي المنتخب حديثا، قيس سعيد، بكثرة على وسائط التواصل الاجتماعي. تثير تصرفاته تأييدا كثيرا، مثل توقفه للحصول على القهوة من المحل الذي اعتاد عليه قبل وصوله إلى قصر قرطاج، استقباله الشباب التونسي القادم على أقدامه من ولايات بعيدة بحثا عن العمل، استقبلهم في قاعة كبار الزوار، وودعهم بحفاوة وعناق وكأنهم من أبنائه، خطّه لتكليف رئيس الحكومة الجديد، الحبيب الجملي، بخط كوفي رائع، يعكس تمرّسه في القانون الإداري والدستوري، وأيضا الخط الكوفي. هذه كلها وغيرها إشاراتٌ تعكس التواضع الكبير الذي يحمله الساكن الجديد للقصر، بعكس الصورة التي ترسم عن رؤساء عرب يتصفون بالعجرفة والاستحقار للشعب، والأهم لموقعهم العام لخدمة مصالح شخصية، مثل الإثراء أو تعزيز السلطة الخاصة والشخصية لهم ولأبنائهم، أو تدمير معارضيهم بطرق غير مشروعة للحفاظ على مواقعهم.
يطل هنا الرئيس قيس سعيد بوصفه يحمل قيما مختلفة للغاية عن الشائع المعتاد من الزعماء العرب، ولذلك الحاجة له ملحة وشديدة اليوم أكثر من أي يوم مضى، فالعالم العربي يعاني من نقص في القيم والمثل العليا، فالشائع هو استغلال الموقع العام للمصلحة الشخصية، وعكس ذلك هو النادر. والأهم أن الأديان السماوية، وخصوصا الإسلام والمسيحية، التي تستمد منهما المنطقة قيمها ومثلها فقدا تأثيرهما بشكل كبير، بسبب أن كثيرين ممن يتكلمون باسمهما، خانوا هذه القيم أو سحقوها نهائيا. ونجد نموذج تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وكذلك رجال السلطان، مثل محمد رمضان البوطي ومفتي سورية حسون، ومفتي مصر الأسبق علي جمعة، وشيخ الأزهر في مصر عبد الفتاح السيسي وغيرهم، ما يعكس كيف تحول الإسلام إلى مؤسسةٍ دينيةٍ لا قيم عليا تحكمها، بقدر ما تم تحويلها إلى جزء من السلطة المستبدة التي تفتك بالشعب، بالسجون والقتل والتعذيب.
لا يمكن لمجتمع أن يعيش بدون قيم عليا تحكمه، حتى ولو كان من غير دين، كما هو حال فيتنام أو الصين اليوم، حيث قيم الثروة والإثراء تعد القيم العليا، ولذلك فانهيار القيم العليا في المجتمع
العربي عبر فساد المؤسستين، السياسية والدينية، ساهم في الانهيار العام وفقدان الثقة المطلق الذي نجده عبر المظاهرات الرافضة لكل شيء. و"كلن يعني كلن" أصبحت القناعة العامة لدى الجميع، وتعني أن كل شخص يعمل في الشأن العام إنما غرضه إثراء شخصه، ويعمل لحساب منفعته الشخصية، لا وجود لمعايير وقيم النفع العام أو الخير العام كما هو المصطلح الفلسفي. ولذلك فإن التمسك بشخصية، وإن كانت شعبوية بعض الشيء، مثل قيس سعيد، يعد رئيسيا لإعادة القيم العليا في المجتمع العربي. وتعبر عن هذا الأمر، وإنْ بشكل غير مباشر، مظاهرات الرفض في لبنان والعراق والجزائر اليوم، والتي ترى كل النخبة السياسية فاسدة، تقدم دوما مصلحتها الشخصية على المصلحة العامة.
وفي الوقت نفسه، علينا أن ننتظر قبل التقييم النهائي لقيس سعيد، بنجاحه أم فشله، في ظل مهمة بالغة الصعوبة في الصعود بالاقتصاد التونسي، في محيط بيئة إقليمية ودولية غير مساعدة، وهذا ما يجعل الرهان عليه مركباً وتاريخياً، فقيس سعيد اليوم لا يمثل اليوم رئيس تونس الديمقراطية فحسب، وإنما يمثل أيضا القيم العامة التي نبحث عنها في المجتمع العربي. كما تعد قدرته على استعادتها واستردادها عودة إلى القيم العليا في الحياة السياسية والمجتمعية العربية، ولكن المصيبة تكون في فشله أو عدم قدرته على الصعود إلى مستوى هذه القيم، عندها الطامة الكبرى التي تؤكد للشباب العربي دوما انهيار النموذج، وأن البيئة العربية لا تساعد على ولادة القيم العليا.. دعونا ننتظر، قبل أن نحكم على الرئيس، لكنه على الأقل يبدو اليوم أملنا الوحيد.
BCA0696E-8EAC-405E-9C84-3F8EA3CBA8A5
رضوان زيادة

كاتب وباحث سوري، أستاذ في جامعة جورج واشنطن في واشنطن