Skip to main content
عن فائض وهم المنطقة الخضراء
عبد اللطيف السعدون
أخذتنا، نحن العراقيين، انتفاضة/ ثورة الأول من تشرين/ أكتوبر، على نحو مباغت، إلى طقسٍ آخر مختلف تماما عما اعتدناه طوال السنوات العجاف الماضية، مختلف في الحكايات، في الوقائع، في التفاصيل، وحتى في الهوامش والجزئيات الصغيرة. وفي المقابل، كشفت لنا أن ثمّة فائضا مزعوما للقوة يدّعيه لأنفسهم رجال السلطة المعتمدون من القوى المهيمنة، فائضا كذاك الذي تحدثت عنه مرة الروائية التشيلية، إيزابيل الليندي، في "حصيلة أيامها"، عندما أرادت الكتابة عن طقوس حياةٍ تشبه فائض عروض فنية في سيرك. 
منذ ستة عشر عاما، ونحن ندور من حول "سيرك" سياسي صنعته الولايات المتحدة، واستوردت للعمل فيه هواة سياسة، جمعتهم من الأزقة الخلفية لدول الغرب والجوار، وأودعته منطقة شديدة التحصين، أطلقت عليها تسمية "المنطقة الخضراء"، ونراه اليوم يطرح في مواجهة الانتفاضة فائضا وهميا لقوةٍ مزعومةٍ تتحكّم فيها شخصيات شبيهة بالتي تحدثت عنها الليندي، "بهلوانيون ومهرّجون، وحتى حيوانات مدرّبة، ولاعبو خفة، ومشعوذون". وفي حساب هؤلاء أنهم يستطيعون كبح جماح المنتفضين/ الثوار بالترهيب أو الترغيب، باستخدام الرصاص الحي والقنابل السامة أو بالمسكنة وادّعاء التماهي مع الانتفاضة، بالتهديد بالسجن والاعتقال، أو بالدعوة إلى تفاوض وحوار، وقد قوبل ذلك من شباب الانتفاضة وشيوخها بالسخرية والتجاهل، والإصرار على استعادة العراق، أرضا وسماء وهوية وطنية. ومع فائض الوهم هذا الذي أظهرته قوى السلطة، بدت كل شخصية من شخصيات "السيرك" إياه مثل ثور جريح ينازع الموت، وعينه على مدربه كي ينجده.
في حراكاتٍ وانتفاضاتٍ سابقة عرفها العراقيون في أكثر من مدينة، كان رجال السلطة يحمون 
المقدّس، في ضرب تلك الحراكات وإجهاضها، زاعمين أنهم يمثلون جيش الحسين في مواجهة جيش يزيد. وكان هناك من يستسلم لتلك الطروحات الشريرة وينقاد لترويجها. وقد نجحت السلطة في خداع كثيرين. أما في هذه المرة فكان صعبا عليها أن تكرّر مزاعمها، خصوصا أن الانتفاضة تفجّرت أولا في المدن التي تشكل موطن التراث الديني للشيعة، وشكل ذلك تحدّيا من شيعة العراق لمخطّطات إيران و"خيانة منهم لها وهي التي منحتهم كل شيء"، بحسب تعبير صحيفة كيهان الإيرانية شبه الرسمية التي وصفتهم "جهلة وحاقدون".
في هذه المرة، وليس كما كل مرة، كان حل المعضلة المخترع إيرانيا يتدحرج على شقين: العمل على قمع الانتفاضة عبر استخدام كل الوسائل المتاحة، ومنها ما هو متاح لكنه غير آمن. وفي الوقت نفسه، إعطاء جرعات تخدير مقنّنة عن إصلاحات قاصرةٍ لا تغني ولا تسمن. وفي الخلفية الاستراتيجية، يظل هدف الحل الحفاظ على العراق جبهة أمامية، وموقعا متقدّما يضمن لإيران إمكاناتٍ ضخمة، لا لمواجهة الحصار والعقوبات المفروضة عليها فحسب، إنما لإدامة زخم مشروعها العرقي - الطائفي الذي تبشّر به، وقد تحرّك وكلاؤها لوضع الحل موضع التطبيق العملي، لكن الخلافات نشبت بين أركان المطبخ السياسي، إذ بدا أن كل طرفٍ يلقي اللوم على صاحبه ويحمّله مسؤولية التدهور. واستدعى ذلك دخول عرّاب التسويات ومخترع الحلول، قاسم سليماني الذي نجح، في النهاية، في إرساء اتفاق بين من يسميهم بعضهم "الحكماء الثلاثة"، قاسم سليماني نفسه ومقتدى الصدر ومحمد رضا السيستاني نجل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، ويقضي بدعم حكومة عبد المهدي، على أن تطعّم بوجوه شابة جديدة، من قبيل ذر الرماد في العيون، تنهض بمهمة إجراء إصلاحات لا تتخطى الخطوط الحمر، ولا تسمح بتغيير النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، أو إقرار دستورٍ جديدٍ يضمن استقلال البلاد التام وحرية المواطن وحقوقه الأساسية، على أن أبرز ما في الاتفاق القضاء على الانتفاضة/ الثورة مهما كان الثمن والرجوع بالعراق إلى المربع الأول.
هنا تنفس عبد المهدي الصعداء، بعد أن ظل حبيس أنفاسه أياما، وشرع في تنفيذ ما هو مطلوب منه، ملوحا بفائض القوة (فائض الوهم!) لإنهاء الانتفاضة، وتوحي أحاديثه الصحافية المكرورة أنه سيعطي المنتفضين مهلةً إضافيةً، يأمل أن تهدأ فيها النفوس، وتستكين الخواطر، ليضرب ضربته التي يريدها قاصمة، حتى لو أدّت إلى "حمام دم" كالذي بشر به زعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، في مبادرته الشريرة التي باركها سليماني في حينه.
وهكذا، بعد أكثر من أربعين يوما تتداعى كل أشياء المشهد العراقي بين حدّي السيف، لكن لا مسار واضحا يبدو في الأفق.