عن دعاة المثالية وهواة التنظير

عن دعاة المثالية وهواة التنظير

09 ابريل 2020
+ الخط -
مع احترامي لمشاعر الإنسان والإنسانية التي يحملها على أكتافه، إلى كل إنسان مثالي أو يدعي المثالية أقول له "الكمال لله وحده"، فمنذ قديم الزمان والإنسان من دعاة المثالية ومن هواة التنظير على خلق الله، يرى في تصحيح أخطاء الآخرين ما يجعل شهيته مفتوحة لتصحيح المزيد.

بمعنى أو بآخر فإن السعي لكي تصبح مثاليًا لا يعيبك، وأن تنشل نفسك من الوقوع في خطأ ليس بالأمر الخطأ، ولكن أيضاً الناس ليسوا مرآة أخطائك، فما إن تصحح ما فيهم تصير أنت معفياً.

ولكن لماذا يصبح الواحد منا ساعياً للمثالية ويدعو إليها؟ في رأيي إنها القيود التي تكبح حريتك في الخطأ، صديقي لا تأكل نفسك فأنت لديك الحرية في أن تكون مخطئاً، أنت حر لكي تصيح بأعلى صوتك وأنت تدافع عن فكرة أو تتمسك برأي ما، رغم أن الكثيرين حولك يرون في ما تقوله عدم الجدية، أو لربما يرون ما تقوله سفهاً أو يشي بمدى تفاهتك.


دعاة المثالية وهواة التنظير هم أكثر الناس عبودية، إنهم يفتشون عن كل قيد لكي يربطوا ألسنتهم عن الكلام ويكبلوا وجدانهم عن الخيال ويأسروا عقولهم عن التفكير وينزعون الموهبة من ذوي المواهب كي يموت الإبداع، ولا عجب أن ترى أولئك الناس يعشقون جلادهم ويحبون على رأس من يعذبهم، وكل ذلك تحت مسمى العيب في التقاليد والحرام في الدين، إنهم أكثر الناس استحقاقاً للشفقة، لقصور نظرتهم عن الحياة، لأن من لا يخطئ أبداً لا يصيب.

نظرة الناس لهم تكون هي فرحتهم إذا كانت بخير، وهي تعاستهم لو كانت بسوء، إنهم مفتقدو الحرية، لذا دوماً يسعى الواحد منهم ليصبح مثالياً كي يفرح بنظرة الناس إليه، فما إن تجرد من الناس وعاش في عالم يخلو من نظراتهم، تبرأ من مثاليته.

وذلك ما جعل فيلسوف الوجودية الفرنسي "سارتر" في مسرحيته "جلسة سرية" يقول على لسان أحد أبطال المسرحية بعدما تعب من محاولاته لوصول الكمال: "إنني لست وحدي، ولذلك لست حراً، إن نظرات الآخرين هي الجحيم".

وفي علم النفس السلوكي فإن الكمالية أو المثالية عقدة ومرض نفسي يسعى فيه الفرد ويكافح ليصل إلى الكمال ويضع معايير نقدية عنيفة لنفسه وتصحبها مخاوف من تقييمات الغير.

يبدو أن الدنيا قد ضاقت بالإنسان ليصير بإرادته كالخرتيت. ولكن لماذا الخرتيت بالتحديد؟.. لأنه مبتلى بقصر النظر وذلك يجعله يهاجم الآخرين قبل أن يتبين ما هو هدفه أو ما الذي يهاجمه بالتحديد، وذلك يجعله يقبل بشجاعة ليدهس العدو ولكن يتضح أن العدو هم صغاره ولكن بعد فوات الأوان، وذلك حرمه من استغلال وزنه الثقيل، مما جعله يفضل العزلة تماماً، ومع هذه العزلة فالخرتيت لا ينجو من تطفل الحيوانات التي تلتصق بجسده لتأكل فضلاته.

وبما أننا لا نستطيع تغيير منطق الحيوانات، فلنثبت على موقفنا، ولا تعتبر بطبيعة الحال أنني تحولت في النهاية إلى أحد دعاة المثالية، وأن هذا المقال نوع آخر من التنظير على هواة التنظير، لأني سأترك لك ملخص القول. أرجوك يا صديقي، لا تكن خرتيتا، لا تكن مثالياً، كن إنسانًا ولتحمد الله على ذلك.

دلالات

A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.