عن حمارة الصحافة

عن حمارة الصحافة

03 ديسمبر 2016
+ الخط -

ما زلت أذكرها، بلونها الأسمر، البعيد عن السواد، وغُرّتها البيضاء، ورقبتها الأقرب إلى اللون الرمادي. وما لم أفهمه من غضبها الدائم، واستعدادها الفطري للغدر بمن يحاول قيادتها على غير هواها، أو مفتقداً لخبرة التعامل معها وقت أن "تحرن"؛ وهو التعبير الأكثر دقةً عن مزاجها حين ينقلب، وتقرر رفض أي أمر يوجه إليها، واستعدادها للقيام بأية حركة، ولو كلفتها علقة ساخنة، بالعصا، أو بغيرها.

قبل أن أعي ما حولي في بواكير الطفولة الأولى، احتلت هي مكانة خاصة بين الكائنات التي تسكن "الدار دكها"، وهو المسمى الذي وعيت على من يكبرونني في "البيت"؛ يطلقونه على دار مبنية بالطوب اللبن، خلف بيتنا المبني بالطوب الأحمر. وفي الدار، غرف لتخزين علف الماشية، من تبن وكُسْب، و"شكائر" البطاطس، والفرن البلدي، الذي ظللت أقف على أطلاله بعد هدمه، كلما عدت إلى البيت، كما نطلق عليه في أسرتنا، حتى الآن، تمييزاً عن منازلنا في القاهرة، أو في أي مكان آخر.

البيت في عائلة قنديل، يعني بيت أبي، وأمي، رحمهما الله، في "البلد"، قريتنا رملة الأنجب. كنت وما زلت أراها أجمل بلاد الدنيا، رغم تبدُّل حالها جغرافياً، ومجتمعياً، وتاريخياً، وتلك حكاية أخرى، ربما أدوّن عنها قريباً؛ فلهفتي عليها، جرحي النازف في تغريبة ممتدة لما يقارب ربع قرن من الزمان.

أعود إلى السمراء الغاضبة، التي شكّلت جانباً كبيراً من وعيي في العلاقات بين مخلوقات الله، بتنوعها وثرائها، وتبايناتها، وفي الوعي بالعلاقة مع الثقافة، ومع الصحافة على وجه أكثر صلة وخصوصية؛ فأذكر، على وجه الدقة، أستمتع الآن في لحظات التدوين هذه، بالعيش معها، بكل تفاصيلها.

أعيش رحلتي اليومية، على وجه الدقة ربما؛ رحلتي طوال أيام الإجازة الصيفية، التي تبدأ عادة بعد الفجر بقليل، بالمشاركة في مسابقة مع الأصدقاء، في الجري نحو نخلتنا "الكبيرة"، والأخرى "الصغيرة"، ثم نخلات الأهل والجيران ذي القربى أولاً، ثم الأبعد، لنتسابق في جمع ما تساقط من بلح، حتى وهو "رامخ"، أخضر اللون، ثم أقرب إلى الصفرة، أو الحمرة، قبل أن ينضج ويستوي ويأخذ زخرفه البهيج من الألوان الصفراء الفاقعة، أو الحمراء المثيرة، أو حتى اللون بين الخضرة والصفرة، كما الحال في نخلة منزل جارنا، عم حسين الملاح، يرحمه الله.

أعود إلى سيرتها، إذ تنتهي الجولة الأولى من رحلة جمع البلح المبكرة، فأعود إليها، لأجد عم رمضان؛ الكلاف الذي استأجره أبي، يرحمهما الله، وقد أعدها، لتكون في كامل زينتها. أضع نفسي على طرف أول درجة في عتبات السلم المؤدي إلى "الڤرندة" بمدخل البيت. وفي قفزة سريعة، أجدني مستقراً ومستوياً على ظهرها، وبطريقة آلية، تتحرك هي الأخرى، فتنحرف يميناً لتخرج من البوابة الخارجية. قبلها، يناولني عم رمضان عصا يسميها "النقذ"، قطعها من شجرة الجازورينا الباسقة الحارسة للبوابة، وبعد أن يلكزها بعصاه الخيزران، فتنطلق في رشاقة وخفة،. كانت رحلتان على ظهرها كفيلتين، بتبديد خوف الرحلة الأولى.

بخطوات منتظمة، تسرع أحياناً، إذا تشجعت فاستجبت لما سوّلت به نفسي، من استخدام "النقذ" في ضربتين، أو ثلاث على قدميها الخلفيتين. وبلا توقف، تمرّ من ملعب مركز الشباب، "الملعب الكبير"، تمييزاً له عن ملاعب أخرى أصغر منتشرة في نواحي القرية، كانت بِركاً، وتم تجفيفها، قبل ميلادنا بثلاثين عاماً تقريباً، ثم يميناً إلى الجسر، فصعوداً، إلى منزل السوق.

الآن، تبدأ المغامرة الحقيقية الممتعة؛ فهي تتقافز برشاقة بين "الفلنكات الخشبية"، الواصلة بين قضيبي شريط القطار، لا تتعثر ولا تخطئ. حتى حين ينحرف الشريط، ويتمدد ملتوياً عند "التحويلة"، قبل مائتي متر تقريباً من محطة السكة الحديد. وعندها تغزوني رائحة أشجار "ذقن الباشا"، كنت أشعر أنها أجمل العطور الطبيعية وقتها، قبل أن أتعرف على حدائق أخرى مزروعة بالورد البلدي، في عزبة الجزار.

في مدخل المحطة، تمر بين حاجز حديدي مرتفع، وهوة سحيقة على طفولتي، لتمر على الرصيف، وسط ابتسامات وتحايا الركاب الذين ينتظرون قطار الثامنة، قادمين مبكراً من قرى حول الرملة لا يمر بها شريط السكك الحديدية، وقد كان هذا مبعثاً لتفاخرنا على أقراننا من هذه القرى، لأسعد بتعليقاتهم، التي لا تتوقف، على "حمار الصحافة"، اسم الشهرة لحمارتنا الجميلة.

في النصف الآخر من رصيف المحطة الطويل، تتوقف في نقطة محددة، بجوار عم خالد، يرحمه الله، وقد تأهب مذ رآنا في أول الرصيف، وجهّز لي، الأهرام، والأخبار، والجمهورية، وإصدار اليوم، من المجلات الأسبوعية، آخر ساعة، أو المصور، أو روز اليوسف، أو صباح الخير، أو شهرية الهلال، ملفوفة بطريقة خاصة، كانت تسمح لي بتصفح بعضها سريعاً في رحلة العودة، على ظهر حمارتنا العزيزة، السمراء التي كان رحيلها مفجعاً في كل تفاصيله، وتلك مدونة أخرى..

50C80A35-B0FB-49CC-BE88-9A8FC8B80144
نزار قنديل
كاتب وصحافي مصري، مدير مكتب مصر ورئيس قسم المراسلين في موقع وصحيفة "العربي الجديد". عمل في عدد من المؤسسات الإعلامية العربية والمصرية. يعرّف نفسه: كل لحظة تمر، بدون أن تكون لك كلمة حق وخير وجمال، هي وقت ضائع. كل لحظة لا تصمت فيها، إذا لم يكن لديك كلمة نافعة، هي ثرثرة ضارة. بعيداً عن الوقت الضائع، والثرثرة، أحاول أن أكتب. إن شئت فاقرأ ما تيسر من كتابتي.