01 نوفمبر 2024
عن حكومة الكفاءات التونسية المستقلّة وخفاياها
شهر ونصف هي المدّة التي قضاها رئيس الحكومة التونسية المكلف، الحبيب الجملي، لتشكيل حكومته التي مدّ بها رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، في غرّة جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2020، وأعلن عن أسماء أعضائها بعد ذلك بيوم. وجاء الإعلان عن التشكيلة الحكومية، بوزرائها وكتاب الدولة فيها (28 وزيرا و14 كاتب دولة)، بعد أن سرّبتها حواشي أحد مراكز القرار، ليتداولها الفاعلون الافتراضيون بكثافة على صفحات "فيسبوك"، غنيمة مناكفات سياسية، وتصفية حسابات أيديولوجية، وتقييمات معيارية وأخرى قيمية، نظرا إلى رفض رئيسها مدّ الصحفيين بأسماء وزرائه، إبّان لحظة خروجه من مكتب رئيس الجمهورية وتنظيمه مؤتمرا صحفيا. ويبدو أن رئيس الحكومة المكلف قد غامر بتقديم قائمة في أعضاء حكومته إلى رئيس الجمهورية الذي سلّمها بدوره إلى رئيس البرلمان، احتراما منه للدستور ومن دون موافقته، ومن دون تأمين الأغلبية البرلمانية التي لا تقل عن 109 نواب، لكسب ثقة البرلمان التونسي، والقيام بدورها بالحد الأدنى الممكن من الأمان السياسي، والقدرة على الاستمرارية. ذلك أن هذه الحكومة التي بدت، للوهلة الأولى، غير واضحة النسب، وحظيت بما يكفي من الريبة والشك، من كل الأحزاب، بما في ذلك حركة النهضة صاحبة الحق في التكليف، وحزب قلب تونس صاحب فكرة حكومة الكفاءات، وائتلاف الكرامة تيار الراديكالية الإسلامية الجديدة، زيادة عن حركة الشعب والتيار الديمقراطي الرافضين فكرة حكومة التكنوقراط المستقلّة من حيث المبدأ.
وقد تضمّنت التشكيلة الحكومية المرتقبة خليطا من وزراء قدامى باشروا وزاراتهم إبان حكومات حمادي الجبالي، وعلي العريض (2011 - 2014)، والحبيب الصيد، ويوسف الشاهد (2015 - 2019)، وآخرين من القضاة والموظفين العموميين والمستشارين، وهم
الأغلبية الساحقة فيها، لم يصمدوا كثيراً في إخفاء حقيقة انتماءاتهم السياسية وخلفياتهم الأيديولوجية، فقد أظهر الكشّاف السياسي للمجتمع الافتراضي ما أخفاه الماسح الإلكتروني والتطبيقة الإعلامية التي اعتمدها رئيس الحكومة التكنوقراطية في فرز السير الذاتية المقدّمة له وعددها مئات. أبان ذلك الكشّاف أن حركة النهضة حصلت على النصيب الأوفر من الوزراء وكتّاب الدولة والوزراء المستشارين، وتضمّنت حصتها وزارات العدل، والداخلية، والمالية، والشؤون الدينية، والتجارة، والشؤون المحلية والبيئة، والتجهيز والإسكان والتهيئة الترابية، والتعليم العالي والبحث العلمي، والتكوين المهني والتشغيل، والنقل واللوجستية، وشؤون الشباب والرياضة، والمرأة والأسرة والمسنين، والشؤون الثقافية، والشؤون الاقتصادية في رئاسة الحكومة، وكان في نصيبها أيضا كتّاب الدولة في وزارات المالية، والتجارة، والشباب والرياضة، والشؤون الاجتماعية، والبحث العلمي، والتخطيط والتنمية والتعاون الدولي. كما كان لحزب قلب تونس حصّته التي تضمنت وزارات التخطيط والتنمية والتعاون الدولي، التي أسندت إلى الفاضل عبد الكافي، مرشّح هذا الحزب لرئاسة الحكومة إبّان الحملة الانتخابية، وتكنولوجيات الاتصال والاقتصاد الرقمي المسندة لسامي السماوي، صهر رئيس الحزب نبيل القروي، وكتابة الدولة للصحة التي أسندت لمهى العيساوي، عضو المكتب السياسي لحزب قلب تونس. وجاءت تسمية لبنى الجريبي وزيرة مكلفة بالعلاقة مع البرلمان إرضاء للاتحاد الأوروبي، نظرا لعلاقة الشراكة بين جمعية سوليدار التي ترأستها مع البرلمان الأوروبي وغيرها من المؤسسات الأوروبية، وكذلك الأمر بالنسبة لتجديد العهد لريني الطرابلسي على رأس وزارة السياحة، الذي أرادت من خلاله حركة النهضة إرسال رسالةٍ إيجابيةٍ إلى دوائر القرار الدولي والإقليمي، المالية والاقتصادية
والإعلامية والدبلوماسية الخاضعة لهيمنة اللوبيات الصهيونية. أما إعطاء حقيبتي التربية لكمال الحجام، والشؤون الاجتماعية للسيد بلال، فمرجعه الاستجابة لرغبة قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل أو بعض القيادات النقابية النافذة داخله التي توافقت، هذه المرّة، مع رغبة زعامات نهضاوية حالت دون رجوع حقيبة التربية إلى فتحي الجراي.
لم يكن بعض أعضاء حكومة الجملي من ذوي الكفاءة كما سُوّق لهم، وبعيدين عن شبهات الفساد، والتعامل مع الدكتاتورية والاستبداد زمن بن علي، فقد أظهر الكشّاف الافتراضي وصراعات كسر العظم بين مراكز القرار ولوبيات النفوذ ونشطاء المجتمع المدني ملفات الفساد المودعة في أدراج الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وفي القطب القضائي والمالي حول بعض الوزراء المقترحين، بما في ذلك رئيس الحكومة المكلف الذي تعلقت به شبهة فساد ضمن ما يعرف بقضية تعليف الأسماك في جرجيس التي أثارتها النائب في المجلس الوطني التأسيسي، فطوم عطية، سنة 2013، وشبهات أخرى، على علاقة بالقمح المدعم، عند إشرافه على شركة خاصة، مستفيدة من نفوذ عائلة الطرابلسية أصهار الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، العاملة في المجال الغذائي، بين سنتي 2005 و2011. ونشر نشطاء افتراضيون أيضا مقاطع فيديو وتدوينات كثيرة تتهم أعضاء في الحكومة بتهم أخلاقية وحتى بالسقوط الأخلاقي، وتدين آخرين بالولاء للدكتاتورية وتطبيق تعليماتها، على غرار وزيرة التجهيز التي ناشدت بن علي الاستمرار في الحكم لولاية جديدة بداية من سنة 2004، ووزير الدفاع الذي كان يشغل خطة قاض في المحكمة الابتدائية في تونس، وأصدر أحكامه بحل الهيئتين الشرعيتين للرابطة التونسية للدفاع على حقوق الإنسان وجمعية القضاة التونسيين.
جدلٌ كبير، ولغطٌ وتبادلٌ للتهم، وسجالاتٌ سياسيةٌ وحزبية، ونقاش مجتمعي، ومنابر إعلامية،
وحروبٌ كلامية، اندلعت بالتوازي مع مفاوضات تشكيل الحكومة والإعلان عنها، مركزها الأساسي حركة النهضة التي يبدو أن صراعات الأجنحة التي تشقّها، وتعكس حجم لعبة المصالح ونزعة الغنيمة بداخلها، دفعت بعض أطرافها إلى رفض التشكيلة الحكومية والتلويح بعدم التصويت لها في انتظار تعديل تركيبتها. ويبرز الأمر نفسه في حزب قلب تونس الذي يعتبر أن نصيبه من الحكومة كان دون حجمه السياسي، ولا ينسجم مع وعودٍ قطعها رئيس الحكومة المكلف لهذا الحزب، وأن إعلان الحكومة بتلك الطريقة لا يخلو من الغدر. وينسحب هذا الأمر على كتلة الإصلاح الوطني المكونة من عدة أحزاب، مثل نداء تونس وآفاق تونس والاشتراكي الدستوري، وقد تقدّمت هذه الكتلة بعدة سير ذاتية، لكنها لم تجد أيا من الأسماء المقترحة في مناصب وزارية. وفي السياق نفسه، يعاني ائتلاف الكرامة من تبعية مطلقة لحركة النهضة إلى درجة إقصائه من مفاوضات تشكيل الحكومة، ليكون رئيس الحركة، راشد الغنوشي، هو المتحدّث باسمه.
إصرار "النهضة" على تشكيل الحكومة وفق مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 89 من الدستور، وتكليف الحبيب الجملي الذي شكلّ حكومته بطريقةٍ عشوائيةٍ، تفتقد إلى خبرةٍ سياسيةٍ حقيقية، ومعرفة بالطبقة السياسية ومختلف مكوناتها، وبكوادر الإدارة التونسية والمؤسسة القضائية، وما يخفيه تاريخهم، ومن دون تأمين الحزامين، البرلماني والسياسي، اللازمين، هذا الإصرار وضعها في مأزقيْن، سياسي ودستوري، برزت أولى انعكاساتهما في اجتماع مكتب مجلس نواب الشعب يوم 4 شهر جانفي (يناير) الجاري، الذي اختار، بتأثير من "النهضة" وحلفائها، التاريخ الأقصى وفق النظام الداخلي للمجلس، فُحدّد موعد الجلسة العامة لمنح الثقة للحكومة يوم 10 من الشهر نفسه، لإعطاء مهلة كافية لتأمين الأغلبية البرلمانية. ولكي تؤمن تلك الأغلبية، تتّجه قيادة حركة النهضة إلى إجراء تسوياتٍ جديدةٍ عن طريق تغيير التشكيلة الوزارية، بما يُرضي أجنحة الحركة نفسها، وحزب قلب تونس، وائتلاف الكرامة، وربما كتلة الإصلاح الوطني. ولكن هذا الاتجاه يثير نقاشا دستوريا حادّا، بشأن مدى أحقية الحزب الفائز في الانتخابات إجراء تعديلٍ على حكومةٍ قُدمت إلى رئيس الجمهورية، وأُعلن عن أعضائها رئيس الحكومة المكلف، وتسلم قائمتها رئيس مجلس النواب، لعرضها على الجلسة العامة.
تعلم حركة النهضة أكثر من غيرها أن عرض الحكومة الحالية، بتركيبتها التي تثير الجدل والتحفظ، على الجلسة العامة ستنتهي إلى إسقاطها، وأن إجراء تحوير (تعديل) على تركيبتها يستوجب العودة إلى رئيس الجمهورية الذي لن يقبل إلا بالذهاب إلى الدستور وتكليف الشخصية الأجدر، أو ما باتت تعرف بحكومة الرئيس، بعد أن رفض رئيس الحكومة مقترح مزيد من التشاور، ما يعني أن الحزب الأغلبي قادم في كل الأحوال على أزمة دستورية، وأخرى أخلاقية، ستكون لها استتباعات سياسية عميقة.
لم يكن بعض أعضاء حكومة الجملي من ذوي الكفاءة كما سُوّق لهم، وبعيدين عن شبهات الفساد، والتعامل مع الدكتاتورية والاستبداد زمن بن علي، فقد أظهر الكشّاف الافتراضي وصراعات كسر العظم بين مراكز القرار ولوبيات النفوذ ونشطاء المجتمع المدني ملفات الفساد المودعة في أدراج الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وفي القطب القضائي والمالي حول بعض الوزراء المقترحين، بما في ذلك رئيس الحكومة المكلف الذي تعلقت به شبهة فساد ضمن ما يعرف بقضية تعليف الأسماك في جرجيس التي أثارتها النائب في المجلس الوطني التأسيسي، فطوم عطية، سنة 2013، وشبهات أخرى، على علاقة بالقمح المدعم، عند إشرافه على شركة خاصة، مستفيدة من نفوذ عائلة الطرابلسية أصهار الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، العاملة في المجال الغذائي، بين سنتي 2005 و2011. ونشر نشطاء افتراضيون أيضا مقاطع فيديو وتدوينات كثيرة تتهم أعضاء في الحكومة بتهم أخلاقية وحتى بالسقوط الأخلاقي، وتدين آخرين بالولاء للدكتاتورية وتطبيق تعليماتها، على غرار وزيرة التجهيز التي ناشدت بن علي الاستمرار في الحكم لولاية جديدة بداية من سنة 2004، ووزير الدفاع الذي كان يشغل خطة قاض في المحكمة الابتدائية في تونس، وأصدر أحكامه بحل الهيئتين الشرعيتين للرابطة التونسية للدفاع على حقوق الإنسان وجمعية القضاة التونسيين.
جدلٌ كبير، ولغطٌ وتبادلٌ للتهم، وسجالاتٌ سياسيةٌ وحزبية، ونقاش مجتمعي، ومنابر إعلامية،
إصرار "النهضة" على تشكيل الحكومة وفق مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 89 من الدستور، وتكليف الحبيب الجملي الذي شكلّ حكومته بطريقةٍ عشوائيةٍ، تفتقد إلى خبرةٍ سياسيةٍ حقيقية، ومعرفة بالطبقة السياسية ومختلف مكوناتها، وبكوادر الإدارة التونسية والمؤسسة القضائية، وما يخفيه تاريخهم، ومن دون تأمين الحزامين، البرلماني والسياسي، اللازمين، هذا الإصرار وضعها في مأزقيْن، سياسي ودستوري، برزت أولى انعكاساتهما في اجتماع مكتب مجلس نواب الشعب يوم 4 شهر جانفي (يناير) الجاري، الذي اختار، بتأثير من "النهضة" وحلفائها، التاريخ الأقصى وفق النظام الداخلي للمجلس، فُحدّد موعد الجلسة العامة لمنح الثقة للحكومة يوم 10 من الشهر نفسه، لإعطاء مهلة كافية لتأمين الأغلبية البرلمانية. ولكي تؤمن تلك الأغلبية، تتّجه قيادة حركة النهضة إلى إجراء تسوياتٍ جديدةٍ عن طريق تغيير التشكيلة الوزارية، بما يُرضي أجنحة الحركة نفسها، وحزب قلب تونس، وائتلاف الكرامة، وربما كتلة الإصلاح الوطني. ولكن هذا الاتجاه يثير نقاشا دستوريا حادّا، بشأن مدى أحقية الحزب الفائز في الانتخابات إجراء تعديلٍ على حكومةٍ قُدمت إلى رئيس الجمهورية، وأُعلن عن أعضائها رئيس الحكومة المكلف، وتسلم قائمتها رئيس مجلس النواب، لعرضها على الجلسة العامة.
تعلم حركة النهضة أكثر من غيرها أن عرض الحكومة الحالية، بتركيبتها التي تثير الجدل والتحفظ، على الجلسة العامة ستنتهي إلى إسقاطها، وأن إجراء تحوير (تعديل) على تركيبتها يستوجب العودة إلى رئيس الجمهورية الذي لن يقبل إلا بالذهاب إلى الدستور وتكليف الشخصية الأجدر، أو ما باتت تعرف بحكومة الرئيس، بعد أن رفض رئيس الحكومة مقترح مزيد من التشاور، ما يعني أن الحزب الأغلبي قادم في كل الأحوال على أزمة دستورية، وأخرى أخلاقية، ستكون لها استتباعات سياسية عميقة.