عن تنصّل نتنياهو من اغتيال سليماني

عن تنصّل نتنياهو من اغتيال سليماني

20 يناير 2020
+ الخط -
كان واضحاً لمن يقرأ بين سطور الإعلام العبري في الأسابيع الماضية، أن حدثاً كبيراً سيحدث على جبهة المواجهة مع إيران في سورية أو العراق، وهذا ما أكّدته لاحقاً وسائل إعلام أميركية، وأن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، كان الوحيد الذي علم مسبقاً من الرئيس دونالد ترامب بقرار اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني. وذكرت أكثر من وسيلة إعلام أميركية أن بنيامين نتنياهو لعب دوراً بارزاً في إقناع الرئيس ترامب باغتيال سليماني منذ أكثر من عام ونصف عام، بسبب الإجماع الأمني والعسكري والسياسي الإسرائيلي على خطورة قاسم سليماني على إسرائيل، إذ تحمّله إسرائيل مسؤولية تفجير سفارتها في الأرجنتين في عام 1992، مروراً بمحاصرة إسرائيل من الجهات الشمالية والشرقية والجنوبية بمئات آلاف المقاتلين والصواريخ، وتحسين مشروع دقة صواريخ حزب الله، وإدخال المسيَّرات الهجومية إلى لبنان وغزة. إلا أن ترامب لم يقتنع بفكرة الاغتيال إلا قبل أشهر قليلة، بعد زيادة التوتر في الخليج، من استهداف ناقلات للنفط، أو ضرب منشآت نفطية سعودية وغيرها، واتهام قاسم سليماني بذلك. إلا أن ردّ رئيس الحكومة الإسرائيلية جاء بنفي أي صلة لإسرائيل باغتيال سليماني، سواء بالقرار أو المشاركة المعلوماتية أو العملياتية.
اغتيال قاسم سليماني، وعودة التوتر في العلاقات الأميركية مع إيران، يصبّان في مصلحة 
إسرائيل ونتنياهو شخصياً، ليس فقط لأن الاغتيال جاء بعد انتقاداتٍ شديدة ضد ترامب، لعدم رده على إسقاط الحرس الثوري الإيراني المسيّرة الأميركية المتقدمة قبل شهور، وعدم الرد على احتجاز ناقلات نفط دولية في المياه الخليجية، وضرب منشآت لشركة أرامكو السعودية، الذي يعني تحوّلاً في سياسة ترامب تجاه قضايا المنطقة، وما يسمّى النفوذ الإيراني في المنطقة، وسيقطع الطريق على أية احتمالية لانسحاب القوات الأميركية من المنطقة، كما تحدّث ترامب مراراً، بل أيضاً لأن نتنياهو تبنّى خطاباً متطرّفاً ضد إيران في العقد الماضي، وأصبح الموضوع الإيراني في صلب برنامجه السياسي والانتخابي، لما فيه من تخويف للمجتمع اليهودي وإبقاء الموضوع الأمني حاضراً في النقاش العام، لما له من مصلحة انتخابية لنتنياهو، في ظل ما يتعرّض له من ملاحقات قضائية بتهم الفساد والغش والرشى، وفي ظل عدم القدرة على تشكيل حكومة في العام الأخير.
عودة ما يسمّى الخطر والتهديد الإيراني إلى الواجهة تصبُّ أيضاً في مصلحة إسرائيل، لأنه سيؤدي إلى تراجع آخر في المكانة الإقليمية والدولية للقضية الفلسطينية. وأي تراجع في الاهتمام الإقليمي والدولي بالقضية يصبّ في مصلحة إسرائيل التي ترى في ذلك إنجازاً استراتيجياً يسمح لها بمواصلة مشروعها التهويدي، والاستمرار في محاولات القضاء على المشروع التحرّري الفلسطيني، وذلك بمحاربة نشاطات لجان المقاطعة الدولية، وليس انتهاءً بالاستمرار بمشروع تصفية ما بقي من القضية الفلسطينية.
نجح نتنياهو في السنوات الأخيرة بالتقارب مع بعض الأنظمة العربية، وخصوصاً الخليجية، ولم تعد بعض الأنظمة تنظر إلى إسرائيل عدوّاً، لا بل إن الخطاب الإعلامي السعودي والبحريني بدأ يتعامل مع إسرائيل في الآونة الأخيرة، وكأنها جزء من المنطقة، وما كان ذلك ليحدث، من دون التوتر في علاقات تلك الدول مع إيران. لذلك، يرى نتنياهو أن اغتيال قاسم سليماني سيؤدي إلى تصاعد في التوتر والصدام بين تلك الأطراف، ما سيشكّل مدخلاً جديداً لنتنياهو،
 لتعميق علاقاته وتطويرها مع بعض تلك الدول، وصولاً إلى بناء تحالفات إسرائيلية، مع بعض هذه الأنظمة، لما يشكّله من مصلحة شخصية لنتنياهو، ومصلحة استراتيجية للحركة الصهيونية، متمثلة بإخراج الدول العربية من الصراع العربي الإسرائيلي، والاستفراد بالشعب الفلسطيني وتيئيسه بأن الأمة العربية قد تخلت عنه وتركته وحده في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة.
دفعت مصالح نتنياهو وإسرائيل في اغتيال قاسم سليماني، نتنياهو إلى أن يجد فرصة في محاصرة متظاهرين عراقيين السفارة الأميركية في بغداد، لتذكير الرئيس ترامب بمقتل السفير الأميركي في ليبيا عام 2012، وإعادة الذاكرة الأميركية 40 عاماً إلى الوراء، ومشهد اقتحام الطلبة الإيرانيين للسفارة الأميركية في طهران واحتجاز الرهائن الأميركيين في عام 1980 أكثر من عام، ما أدى إلى إصدار ترامب قرار الاغتيال، الذي حصل بالتعاون الاستخباراتي مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. وعلى الرغم من ذلك كله، كان وزراء نتنياهو قد مُنعوا من الإدلاء بأية تصريحات، ردّاً على اغتيال القوات الأميركية قاسم سليماني، واصفاً نتنياهو ذلك بالقرار الأميركي المستقل الذي لا علاقة لإسرائيل به. وبرر نتنياهو ذلك بأن إيران وأذرعها لم تعد تشكل تهديداً لإسرائيل وحدها، لا بل باتت تشكل خطراً على الإقليم والعالم، بما فيه المصالح الأميركية. وبالتالي، مواجهتها ليست مسؤولية إسرائيلية حصرية، بل مسؤولية إقليمية ودولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية التي عملت إسرائيل على وصول الاشتباك إلى الصدام المباشر بين الولايات المتحدة وإيران، وليس عبر الأذرع والجماعات المدعومة إيرانياً، حيث تتمنّى إسرائيل أن تتطوّر
المواجهة المباشرة إلى تدمير القوات الأميركية المشروع النووي الإيراني، على الرغم مما يحمله هذا السيناريو من مخاطر، حيث تخشى إسرائيل أن يعجّل استنزاف القوات الأميركية في المنطقة في انسحابها، وليس في بقائها كما تريد إسرائيل.
يأتي التنصل الإسرائيلي من اغتيال قاسم سليماني، في وقت تعتقد فيه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن الاغتيال سيؤدي إلى تصاعد في التوتر والاشتباك، وخصوصاً أنه تزامن مع مرحلةٍ لم تكن مريحة لإيران في العراق، ومع المظاهرات التي شهدتها عدة محافظات عراقية، ومطالبتها بوقف التدخل الإيراني في العراق، ما قد يجعل من اغتيال سليماني فرصة لإيران وحلفائها في العراق لقلب الطاولة هناك، وإعادة طرح الوجود الأميركي في العراق والمنطقة، كالخطر الأكبر على العراق والمنطقة، وما حدث من قرار للحكومة وللبرلمان فيما بعد كان جزءاً من ذلك. كما مواكب تشييع الفريق سليماني ونائب رئيس "الحشد الشعبي"، أبو مهدي المهندس، ومشاركة ملايين العراقيين في أكثر من محافظة، الذي سيُترجَم بعملياتٍ نوعيةٍ، ستنفذها الجماعات المسلحة العراقية الحليفة لإيران ضد الوجود العسكري الأميركي في العراق، ما سيؤدي إلى مقتل أميركيين، وهذا ما لا يريد نتنياهو تحمّل مسؤوليته أمام الرأي العام الأميركي، لكي لا يؤثر بدعم المجتمع والنظام الحزبي الأميركي لإسرائيل، ولا يؤدي إلى إضعاف الحزب الجمهوري واتهام نتنياهو. كذلك إن تنصل نتنياهو من مسؤولية اغتيال قاسم سليماني يعود إلى تحذير مسؤولين إسرائيليين من أن ثرثرة نتنياهو وتبجحه قد يؤديان إلى نتائج عكسية، ويستفزّان الجماعات الإيرانية في لبنان وسورية للرد عليها.
في كل الأحوال، تريد إسرائيل ورئيس حكومتها أن يكون اغتيال الفريق قاسم سليماني مشروعاً صافي الربح، ومن دون أية خسارة، وتكون أكبر المستفيدين من اغتياله، وتصعيد التوتر بين كل الأطراف في المنطقة، وخصوصاً الولايات المتحدة وإيران، وتوريط الولايات المتحدة في صراعات المنطقة، وألا تسحب قواتها، وتخويف بعض دول الخليج من إيران لتبرّر علاقتها مع إسرائيل، وأن يعود الاهتمام الإقليمي بإيران ونفوذها، لا بالقضية الفلسطينية، كما مصلحة بنيامين نتنياهو في تخويف المجتمع اليهودي، وإعادة الموضوع الأمني إلى النقاش الانتخابي العام، لا إلى فساده ومحاكمته.