عن اليمين النيوليبرالي في مصر

عن اليمين النيوليبرالي في مصر

18 ابريل 2020
+ الخط -
دفعت جائحة كورونا الحكومات في العالم دفعاً إلى اتّخاذ تدابير احترازية عديدة، لتحقيق التباعد الاجتماعي والحدّ من التجمّعات، بهدف تقليص فرص انتشار العدوى، فُرضَ حظر التجول وتمّ تقليل ساعات العمل. ولهذه الإجراءات آثار سلبية كبيرة على المستوى الاقتصادي. ومن هنا، تبنّى رجال مال غربيون مبادرات عديدة، من أجل دعم الجهود الحكومية لمواجهة كورونا، فقد خصّصوا مئات الملايين من أموالهم لشراء أجهزة طبيّة، أو دعم أبحاث علمية تهدف إلى التوصّل للقاح مضادّ للفيروس. 
أمّا في مصر فقد كان الوضع مختلفاً، فقد خرجت بصورة متتابعة تصريحات لبعضهم، ممّن يُطلق عليهم رجال الأعمال، حملت لهجة مُتبرِّمة مُتذمّرة من التدابير الاحترازية التي اتخذّتها الحكومة، إذ خرج أحدهم قائلاً: إن القطاع الخاصّ مضطر لتخفيض الرواتب والاستغناء عن العمالة، ولا بديل عن عودة العمّال إلى المصانع، لأن استمرار الوضع سيؤدّي إلى انهيار اقتصادي، على حدّ زعمه. ثمّ خرج ملياردير آخر، معتذراً عن عدم تقديم تبرّعات لمكافحة كورونا، قائلاً إنه يفضّل دفع رواتب العاملين في شركاته على تقديم تبرّعات خلال تلك الفترة التي تقلّ فيها الإيرادات بصورة كبيرة. وجاءت ثالثة الأثافي في تصريحات ملياردير ثالث، تضامن فيها مع زميله الثاني، وزادنا فيها من الشعر أبياتاً، عندما قال إنه يفضّل أن تزيد الإصابات على الوصول إلى الإفلاس، وإن "شعب قائم وناقص شويّة أفضل من شعب مفلس تماماً" بتعبيره (!).
لا يمكن على الإطلاق إغفال تلك التصريحات أو التغاضي عنها، تحت دعوى أنها استثناء من 
القاعدة، بل هي بالفعل تمثّل خطاباً يمينياً حاملاً منظومة القيم "النيوليبرالية" المُتطرّفة التي لا تعرف سوى الربح، وترفعه فوق أي اعتبارات أخرى، حتى ولو كانت اعتبارات إنسانية، وتعكس تصوّراً مسيطراً على العقل الجمعي للسادة، بارونات رجال الأعمال الذين أثروا ثراءً فاحشاً، وحقّقوا فوائض مالية هائلة، وأحرزوا ثروات طائلة، ليس بسبب مهاراتهم وجهودهم وحسب، ولكن لأسباب أخرى.
يعرف دارسو القانون مصطلح "الإثراء بلا سبب"، وهو التوصيف المناسب للسادة المليارديرات من أصحاب النزعة اليمينة المُتطرّفة الذين وصفهم الراحل أنور عبد الملك بأنهم "رجال الأعمال السمسارية وكلاء الاحتكارات الإمبريالية"، بسبب علاقاتهم بأكبر المؤسسّات الرأسمالية الغربية التي أضفت عليهم قدراً من الحصانة، ومنحتهم امتيازاً لمعاملة خاصّة، فهم الذين حقّقوا ثرواتهم، طوال العقود الماضية، منذ تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، عبر تمتّعهم بحزمة واسعة من الامتيازات الحكومية، منحتها إيّاهم الحكومات المتعاقبة في عهد حسني مبارك، تمثّلت في إعفاءات ضريبية، وتسهيلات جمركية، فضلاً عن شرائهم مساحات واسعة من أراضي الدولة بملاليم، ثمّ باعوها بعد حين بملايين، في صفقات شابتها شبهات فساد كبير، إلى جانب حصولهم على المؤسسات الإنتاجية الحكومية التابعة للقطاع العام عبر مشروع الخصخصة الشهير.
كتب المؤرِّخ الراحل حسين مؤنس عن "الباشوات والسوبر باشوات"، والباشوات هم الطبقة النخبوية التي احتكرت المشهديْن، السياسي والاقتصادي، في العهد الملكي، حتى جاء الانقلاب العسكري في 23 يوليو/ تموز 1952 فأجهز عليهم بأنيابه الدولتية، ومخالبه القمعية، عبر 
الإجراءات الاستثنائية، مثل التأميمات، والمصادرات، وفرض الحراسات، ثمّ أطلق عليهم آلته الإعلامية والفنّية الهائلة، فأوستعهم قدحاً وذمّاً بالحقّ وبالباطل، ثمّ حلّت محلّهم طبقة "السوبر باشوات" الذين وصفهم مؤنس بأنهم باشوات بلا ألقاب، وأشراف بلا شرف، وناس بلا إنسانية، ومواطنون بلا وطنيّة. لم ير حسين مؤنس "السوبر باشوات" الجدد الذين ظهروا في غفلة من الزمن، ولم يسمع تصريحاتهم، ولا نعرف ما هو التوصيف الذي كان سيخلعه عليهم؟!
عدا أمراء الأسرة العلوية، كانت أصول باشوات العهد الملكي تعود إلى الفلّاحين في أرياف مصر، فلم تكن طبقة الباشوات منفصلةً عن المجتمع المصري بأي صورة كانت، كما أنّ الباشوات مثّلوا الرأسمالية الوطنية، حيث مارسوا نشاطاً اقتصادياً إنتاجياً في الزراعة والصناعة، انعكس على تكوينهم القيمي والأخلاقي، على النقيض تماماً من تلك الطبقة الهلامية غير المرئية أو"السوبر باشوات" الجدد، الذين يعانون انفصالاً نفسياً ووجدانياً عن عموم المجتمع المصري، فهم أشبه بـ"جماعة وظيفية" تتمركز حول ذاتها، وترتبط فيما بينها بشبكة من المصالح، وتعيش في مجتمعاتٍ مخملية مغلقة، إلى جانب ممارستهم نشاطاً اقتصادياً طفيلياً، لا يقوم على إضافة أصول إنتاجية أو صناعة حقيقية، بقدر ما يقوم على مضاربات البورصة والاستثمار العقاري.
حاولت السينما المصرية رصد حالة الانقسام الاجتماعي الحادّ الذي ظهر في العقود الأخيرة، بعد ظهور الطبقة المملوكية الجديدة، بين قاطني القبور والعشوائيات وساكني القصور والمنتجعات، ويُعدّ فيلم "المنسي" في 1993 أوّل فيلم تعرّض لهذه النقطة عبر إبراز التناقضات الكبيرة بين شخصيتي يوسف المنسي عامل التحويلة (عادل إمام)، وأسعد ياقوت رجل الأعمال النيوليبرالي (كرم مطاوع)، إذ ظلّ كلٌّ منهما في عالمه المنفصل تماماً عن عالم الآخر، حتى وقع الصدام بينهما. وفي قصر ياقوت، دار حوار مهمّ حمل دلالات عديدة، خصوصاً العبارات التي وجههّا ياقوت للمنسي، وجسّدت تلك النظرة الطبقية الاستعلائية التي ينظر بها المماليك إلى الحرافيش، فقد أكّد ياقوت وشدّد على أن طبيعة الكون لا يُمكن أن تمنح الفرصة لأمثال المنسي، من الحاقدين المغرورين، كي يُفسدوا على أسيادهم حياتهم.. هذا ما قدّمته السينما عن الطبقة النيوليبرالية، بيْد أن الواقع فاق كلّ خيال، وجاء بمشاهد أنكى وأقسى.