Skip to main content
عن المواطن المثالي والوطن الذي بهتت ملامحه (2-2)

كشكول

بلال فضل
تكون واهماً، إذا ظننت أن فوزك بجائزة نوبل للآداب بجلالة قدرها، وكونك أشهر من ينتمي إلى تلك البلدة الصغيرة المرمية في غياهب الأرجنتين، سيحميك من غضب مواطني البلدة الشرفاء، تلك البلدة التي تركتها أربعين عاماً، وحين عدت إليها لم تعمل حساباً لكبرائها ورموزها، وأخذت تتصرف فيها كما لو كنت تعيش في مدينة أوروبية ليس لها قيمنا وتقاليدنا.

كان هذا الدرس الذي سرعان ما أدركه دانيا مانتوفاني بطل فيلم (المواطن المثالي) بعد ساعات من معركته مع روميرو رئيس جمعية الفنون الجميلة ببلدته (سالاس)، والذي تجرأ دانيال على تخطي لوحته المشاركة في مسابقة الفنون التشكيلية، ومنح الجائزة للوحة شارك بها رسام فقير، وبعد أن كان دانيال يتلقى الحفاوة من الجميع، أصبح فجأة يواجه بنظرات عدائية لا تخطئها العين، ويتعرض لملاحقة استفزازية من سيارة يستقلها بلطجية روميرو الفنان المتنفذ، لينقذه من بطشهم صديقه القديم وزوج حبيبته السابقة، الذي يحرجه بسؤاله عن رأيه كيف وجد إيريني بعد كل هذه السنين، ثم يخبره أنه عاش سنوات عصيبة في بداية علاقته بإيريني، حين اكتشف أنها لم تنس دانيال، وأنها ظلت حريصة على قراءة كل كتبه، لكنه يؤكد له أن ذلك صار من الماضي الآن، وأنهما يعيشان مع بعضهما سعداء ومتحابين.

يأتي أحد مواطني سالاس إلى الفندق بصحبة ابنه الفتى المعاق الذي يستخدم كرسياً متحركاً قديماً، يطلب الأب من دانيال مساعدته على شراء كرسي متحرك حديث، خاصة أنه عاطل عن العمل وأم ابنه مدرّسة، وأنه لن يجد أحداً يساعده في شراء الكرسي الذي يبلغ ثمنه حوالي عشرة آلاف دولار أميركي، يفاجئه دانيال بأنه يرفض مساعدته، لأنه ليس مؤسسة أهلية متخصصة في المساعدة، وأن عليه أن يتوقع المساعدة من المؤسسات الحكومية وليس منه ككاتب لديه التزامات أخرى غير القيام بالأعمال الخيرية، وأن رأيه هذا لن يتغير سواءٌ كان ثمن الكرسي دولاراً واحداً أو مائة ألف دولار، لأن رفضه للمساعدة الخيرية مبدئي، لأنه لو ساعده سيكون له إلهاً من نوع ما، مخلّصاً يقرر حل مشاكله بطريقة إعجازية، وهو ما يرفض فعله بشكل قاطع، كما أنه يعتبر أن الطريقة التي يطلب بها المساعدة تبدو كنوع من الابتزاز، ثم يترك الأب المحبط وينصرف.


في الندوة التالية لدانيال، يُفاجأ بأن عدد الحضور أقل بكثير من المرة الأولى بعد كل ما حدث له في البلدة، لكنه يواصل الحديث بحماس مع الجمهور القليل عن تصوراته للأدب والفن والكتابة، يقتحم روميرو الغاضب الندوة مقاطعاً، ويقوم أعوانه بتوزيع أوراق على الحاضرين بها مقاطع من كتب دانيال، يقول إنها تشوه مجتمع البلدة وتسيء إلى سمعتها وتصور أهلها بوصفهم جهلة ومنحرفين وحثالة، ويتهم دانيال بأنه يصر في كل كتبه على أن ينسب إلى أهل البلدة الشرفاء أسوأ ما في السلوك البشري. يطلب دانيال منه مغادرة القاعة فوراً، فيتهمه روميرو بالنفاق وأنه يتحدث مع أناس لم يقرأوا أعماله التي قامت بتشويه مجتمعهم ليسلي الجمهور الأوروبي، وأنه في الحقيقة خائن من الذين وضعهم دانتي في الكوميديا الإلهية في الدرك الأسفل من الجحيم، "لأن الخيانة أشد الخطايا مقتاً، ولأنك لكي تخون يجب عليك أولاً أن تكسب ثقة ورضا عدوك"، وهو ما يجعل دانيال خائناً كيهوذا، لأنه هرب من بلدته حين أصبحت المعيشة فيها صعبة، وحين قرر أن يكتب أخذ يشوه سمعة بعض رموزها الذين لم يعودوا بعد موتهم قادرين على الدفاع عن أنفسهم، لكي يحصل على الجوائز من الأوروبيين الذين أصبح يعمل لصالحهم ضد أهل بلده.

يصر دانيال على طرد روميرو من الندوة، ويتضامن معه بعض الحاضرين، فيلقي روميرو بقنبلته الأخيرة قبل أن يخرج، قائلاً: "ماذا ننتظر من رجل لم يتحل بالحياء اللازم لكي يعود لدفن أبيه؟"، يتأثر الحاضرون بما قاله، لكن دانيال يحاول الدفاع عن نفسه قائلاً: "لنفترض أن ما يقال عني صحيح، وأنني الوحش الذي تم وصفه، هل هذا يقلل من شأن كوني فناناً يكتب الخيال، ولا يكتب منشورات عن السلوك الأخلاقي، يكتب عن شخصيات ترتكب سلوكيات حقيرة هي للأسف جزء من هذا العالم الذي نعيشه، لكني لا أستحسن أفعال شخصياتي ولا أستهجنها، هل يستحسن مؤلفو الجريمة جرائم القتل؟"، تسأله سيدة من الحاضرات: "لكن لماذا لا تكتب عن أشياء ألطف؟"، يضحك بمرارة معتبراً أن سؤالها يلقي أضواء التساؤل على حياته كلها ككاتب، لكنه لا يقدم لها إجابة، ربما لأنه لا يعرف إجابة على سؤالها.

لا يمر وقت طويل قبل أن يضعف دانيال تجاه الطلب الإنساني الذي طلبه منه والد الشاب المعاق، فيطلب من سكرتيرته توفير الكرسي المتحرك المطلوب للشاب، ثم يذهب دانيال إلى زيارة بيت حبيبته السابقة وزوجها الذي يعد له وليمة عامرة، لكن مع نهاية الليلة تنزل عليه صاعقة، حين يكتشف أن الفتاة الجامحة المشاغبة التي نامت معه، ليست سوى ابنة حبيبته إيريني وصديقه أنطونيو، لكنه يحرص على ألا ينتبه أحد إلى ذلك الاكتشاف، وبخاصة صديقه المضطرب الذي يتعامل طيلة الوقت بتشكك مع مشاعر زوجته تجاه حبيبها السابق، ويحاول أن يغطي على شكه بالمبالغة في الحفاوة بصديقه، والمبالغة في إعلان محبته لإيريني، التي يطلب منها أن تقبله أمام دانيال بشراهة، كأنه يرغب في تحديد منطقة نفوذه بوضوح أمام غريمه المفترض.

ما يزيد الطين بلة هو حضور ابنة صديقيه إلى العشاء بصحبة خطيبها العملاق غريب الأطوار الذي يقف على حدود البلاهة، بل ويتجاوزها أحياناً، والذي يتضح أنه يساعد أنطونيو في رحلات صيد الخنازير البرية، يدعو أنطونيو صديقه القديم إلى المشاركة في واحدة من تلك الرحلات ستقام في الليلة التي تسبق سفره مباشرة، وبالطبع تفشل محاولات دانيال في رفض الدعوة، لتكتمل سهرته القلقة مع صديقه في حانة رخيصة بالبلدة، يكتشف فيها أن صديقه "المتزوج السعيد" على علاقة بعدد من عاهرات البلدة، ويحاول صديقه أن يبرر له قيامه بعلاقات غير مشروعة طالما ظل حريصاً على العودة إلى زوجته كل ليلة لينام في حضنها ويحافظ على تماسك أسرته.


يطلب أنطونيو من مساعده المضطرب إيصال دانيال إلى الفندق، ليفاجأ دانيال فور وصوله إلى غرفته بوجود ابنة صديقه فيها وهي تنتظره عارية ومستعدة للمزيد من المضاجعة، يطردها منفعلاً من الغرفة، ويطلب منها ألا تعود إليه من جديد، فتتهمه بأنه مخنث وتغادر الفندق، وبعد أن يقضي ليلة مليئة بالكوابيس، يفاجأ في الصباح بزيارة أنطونيو له وهو في حالة سكر بين، يزيدها توتراً أنه قدم إلى صديقه وهو يضع مسدسه في حزامه، يترك دانيال صديقه نائماً في غرفته، ويذهب لحضور مراسم تدشين تمثاله النصفي التي لا يحضرها إلا رئيس مجلس المدينة وعدد قليل من المواطنين، يعده رئيس مجلس المدينة أنه لن يواجه أي مشاكل في محاضرته الأخيرة، ويذكره بأن هناك حاقدين في كل مكان لا يطيقون نجاحه، كما أنهم يستغلون الفرصة لضرب رئيس مجلس المدينة من خلاله لأسباب سياسية، لكنه ينصحه بأن يقوم بقبول بعض اللوحات التي رفضها، لكي يفوت الفرصة على أولئك الحاقدين، خاصة أن دانيال سيرحل، وسيضطر رئيس مجلس المدينة إلى التعامل مع هؤلاء الغاضبين، يطلب منه دانيال أن يفعل ما يريده إذا كان الأمر يهمه إلى هذا الحد.

خلال سيره في شوارع البلدة، يُفاجأ دانيال بغضب الرجل البدين الذي سبق له أن دعاه إلى العشاء في بيته، والذي اعتبر أن دانيال وجّه له ولأمه ولذكرى أبيه إهانة بالغة حين تجاهل تلبية الدعوة، يفقد دانيال صبره ويطلب منه ألا يصدق أنه كتب بالفعل عن والده في إحدى رواياته، لأن شخصيات كتبه ليست سوى شخصيات متخيلة لا وجود لها، وأنه لا يوجد شيء مشترك بينهما سوى الولادة في هذه البلدة، لكن ذلك وحده لا يعطيه الحق في أن يفرض نفسه عليه بهذا الشكل. تتعقد الأمور أكثر، حين يفاجأ دانيال بحبيبته السابقة إيريني وهي تهاجمه لأنها عرفت بما دار بينه وبين ابنتها، وتعرب عن صدمتها فيه لأنه أصبح عجوزاً قذراً، فيقسم لها أنه لم يكن يعرف هوية ابنتها، وإلا لما اقترب منها، يداهمهما أنطونيو خلال الحديث وقد ظهر عليه أنه تعرض للضرب المبرح في إحدى خناقاته المستمرة، ويسألهما بتشكك: "هل قاطعت شيئاً ما"، فيقوم الاثنان بتمويه الموضوع لكي لا يزيدا الأمور تعقيداً.

في محاضرته الأخيرة التي لا يحضرها أكثر من خمسة أشخاص، يعرب دانيال عن استيائه لأنه يتم التعامل معه كبطل قومي يخرجونه من الخزانة وينفضون عنه الغبار لكي يحضر حدثاً ثقافياً ما، ثم يعيدونه إلى الخزانة من جديد، مع أنه كان يحاول الهروب من ذلك طيلة عمره، لكنه يحرص على شكر المواطنين الخمسة الذين أصروا على حضور محاضرته، يذهب دانيال لزيارة منزل طفولته القديم، ثم يذهب لزيارة قبر أبويه، ويعود إلى فندقه، لكنه يفاجأ بإطلاق النار قرب فندقه من أشخاص يتهمونه بالخيانة، ويوزعون منشورات تهاجمه، وحين يمر على تمثاله النصفي التعيس، يفاجأ به وقد تعرض للتشويه.

حين يصل دانيال إلى آخر المناسبات الرسمية التي سيشارك فيها، وهي حفلة إعلان جوائز مسابقة الرسم، يجد القاعة مليئة بالحاضرين، ويفاجأ بالنتائج وقد تم تعديلها طبقاً للمواءمات "السياسية" التي طلبها رئيس مجلس المدينة، الذي يطلب منه إلقاء كلمة عن دور الثقافة في تقدم المجتمع ودور الحكومة في الحفاظ على الثقافة، يمسك دانيال بالميكروفون غاضباً ويقول إن أفضل السياسات الثقافية في رأيه هو عدم تبني سياسة ثقافية بشكل رسمي من قبل السلطات، ويستنكر تعبير "الحفاظ على الثقافة" الذي يكشف عن اعتبار الثقافة دائماً شيئاً هشاً وضعيفاً يحتاج إلى الحراسة والحماية والنشر والدعم، مع أن الثقافة عصية على التدمير وقادرة على النجاة من أسوأ الكوارث.

يقول دانيال في كلمته المربكة للحضور: "كان هناك قبيلة برية في أفريقيا، لا توجد في لغتها كلمة الحرية، أتعرفون السبب؟ لأن أفراد القبيلة كانوا أحراراً، ولذلك أظن أن كلمة الثقافة تجري دوماً على ألسنة أجهل وأغبى وأخطر الناس، وأنا شخصياً لا أستخدمها أبداً"، ثم يصارح الحضور بأن اللوحات التي تم اختيارها لم تكن هي التي تم الاستقرار على أنها ستربح المسابقة، بل لم يتم اختيارها من أصله للعبور بالتصفيات، خصوصاً اللوحة التي رسمها الدكتور روميرو، لا ينتظره روميرو حتى يكمل، بل يبدأ بمهاجمته، ويقوم أعوانه برمي دانيال بالبيض الذي حملوه معهم تحسباً للمفاجآت، يطلب منه روميرو أن يواجهه في الخارج لو كان رجلاً، وينهال عليه بأقذع الشتائم، لكن بعض الحضور يخرجون روميرو من القاعة.


يعود دانيال إلى الميكروفون ليختم كلمته بالقول: "أعترف بأنه لا يزعجني كثيراً أن يكون لي كارهون ومنتقدون يعادونني بمثل هذا العنف الوحشي، فبرغم ذلك يخالجني شعور بالرضا الشخصي عن الطريقة التي يعبر بها الناس عن أنفسهم ضد ما هو قائم، ألا وهو أنا، لكن لنتطرق إلى المغزى، إذ أنني بصفتي مراقباً منتظماً للكوميديا البشرية، أشعر بالمسؤولية لمحاولة جعل هذا العالم مكاناً أقل فظاعة، أعرف أنها قضية خاسرة، لكنني لن أستسلم ولن أتوقف عن القتال، ولذلك أقول لكم: استمروا، ابقوا كما أنتم، لا تدعوا شيئاً يتغير هنا، واصلوا كونكم مجتمعاً منافقاً، وواصلوا الفخر الغبي بجهلكم ووحشيتكم، يؤسفني أنني تسببت لكم بكل هذه المتاعب"، ثم يلقي بميدالية المواطن المثالي على الأرض، ويخرج من الباب الخلفي للقاعة بصحبة سائقه الذي اصطحبه إلى البلدة.

تأتي إيريني مسرعة إليه وتحذره من الذهاب للصيد مع أنطونيو الذي يستعد للفتك به، بعد أن شك بوجود علاقة بينهما، حين يصل إلى الفندق، يجد في انتظاره هدية جميلة، عبارة عن لوحات له قام برسمها أطفال مدرسة البلدة الفخورون به، يفاجأ موظف الاستقبال بأن دانيال قام بقراءة قصصه وأحب منها قصة بالذات، يثني على أسلوبه في الكتابة، ويعرض عليه نشر قصته ضمن مجموعة من القصص المختارة التي ستصدر في إسبانيا، ويهدي له أحد كتبه، ويعرض عليه أن يستضيفه في برشلونة حين يزورها، بل ويترك له مبلغاً من المال ليساعده على نشر مجموعته القصصية. لكن، قبل أن يتمكن دانيال من مغادرة البلدة، يطبّ عليه أنطونيو ومساعده المختل روكي لاصطحابه إلى رحلة الصيد التي حذرته إيريني منها، وخلال طريقه إلى الرحلة الغامضة، يستعيد دانيال كل المواجهات التي دارت بينه وبين أهل بلدته التي وجد نفسه متهماً بتشويه سمعتهم والمتاجرة بهم لدى الأوروبيين، ليصبح مليونيراً ويظل أهل بلده كما هم، في تعاستهم يعمهون.

لحسن حظه، تنتهي رحلة الصيد قبل أن تبدأ، وبأقل خسائر ممكنة، حيث ينزله أنطونيو في منطقة مهجورة مظلمة، ويطلب منه أن يجري مبتعداً، ثم يبدأ في إطلاق الرصاص عليه، ولكن ليس بهدف قتله أو إصابته، ولكن بهدف تخويفه، لكنه بعد أن يطلق عدة رصاصات، يرى بعدها صديقه دانيال في منظاره المزود بأشعة الرؤية الليلية وهو يجري خائفاً، يفاجأ بدوي إطلاق نار، يعقبه سقوط دانيال على الأرض، ينظر أنطونيو خلفه مندهشاً فيكتشف أن روكي أطلق النار على دانيال، لأنه عرف بالعلاقة التي حدثت بينه وبين خطيبته التي تركته من أجل أن تنام مع هذا العجوز الغني، لنرى دانيال وقد سقط على الأرض نازفاً في انتظار الموت، الذي "يصير فيه كل شيء خاملاً ومنظماً، ويكتب اسم الميت في بلورة الأبدية"، كما يقول دانيال قبل أن تظلم الشاشة، لتتركنا متسائلين عن ما إذا كان قد لقي نهايته حقاً بتلك الطريقة العبثية التي لا تحدث إلا لمن يستطيعون روايتها، طبقاً لما قاله أرنست هيمنجواي ذات مرة عن علاقة الكتاب بالوقائع الغريبة.

نكتشف بعد لحظات أن رصاصة روكي المعتوه لم تكن قاتلة، ربما لأنه أطلقها في الظلام الحالك، أو لأنه لم يكن ماهراً في الصيد، ونعرف أن دانيال مانتوفاني نجا من الموت ومن الجفاف الإبداعي أيضاً، ليكتب من وحي ما جرى له في تلك الزيارة رواية جديدة بعنوان (المواطن المثالي)، نراه في حفل إطلاقها وهو يقرأ مفتتحها الذي يبدأ بالفقرة الآتية: "الرحيل لا يعني الغياب، لسنين حين حل الشتاء هنا، كنت أستطيع الشعور بصيف مسقط رأسي في جسدي، الآن ما عدت أشعر به، تبدأ هذه القصة بخطاب ورقي مرسل من مسقط رأسي سالاس، الذي كان كل ما فعلته طول حياتي هو محاولة الهروب منه، لم تستطع شخصياتي المغادرة قط، أما أنا فلم أستطع العودة".

في آخر لقطات الفيلم يبدو لنا دانيال مزهواً بعودة أضواء الفلاشات لمطاردته، ربما لأنه أصبح أكثر تصالحاً مع حقيقة أنه سيظل إلى الأبد متمحوراً حول ذاته، لأن الكتاب كما يقول في تصريحه الختامي يتمركزون حول ذواتهم ويرجعون دائماً إليها، وأنهم نرجسيون ومغرورون لأن أدوات الكتابة الرئيسية هي القلم والورقة والنرجسية، وبدونها لا يمكن كتابة شيء، وحين يسأله صحافي عما إذا كانت روايته واقعية بالكامل أم خيالية بالكامل، يجيبه قائلاً: "هل يهم ذلك يا عزيزي، لا وجود للواقع، لا وجود للحقائق، بل للتأويلات فقط، الحقيقة أو ما ندعوه الحقيقة هي تأويل يسود على تأويل آخر"، ولذلك لا يهم في رأيه إن كانت الندبة التي توجد في صدره والتي يريها للصحافيين، نتيجة لعملية جراحية قديمة، أو ندبة من حادث دراجة، أو من جرح رصاصة كما حدث له في الرواية؟ المهم في نهاية المطاف أنه عاد ليكتب عن وطنه الذي كلما ابتعد عنه اقترب منه، ليكون تذكر وطنه حين يكتب عنه طريقه الأفضل لنسيان معاناته مع وطنه، ولتكون الكتابة وسيلته الأمثل للتصالح مع حقيقة أنه حين غادر مسقط رأسه، اختار أن تكون الكتابة وطنه البديل وملاذه الأخير.