عن المهجّرين السوريين

عن المهجّرين السوريين

05 اغسطس 2020
+ الخط -

لماذا نحاول الهروب في كل مرّة من قول الحقيقة، والقذف بها بعيداً، وبكل ما تتضمّنه من صدق في المعنى، ما دام أنّها تصبّ في الصالح العام، وتعرّي كل ما هو مخالف للقيم.

نظرة سريعة إلى واقع المهجّرين السوريين ما بعد عام 2013، أيّ بعد أن صارت للحرب السورية الكارثة صولاتها، وكشف عنها، وهذا رأي شخصي أردت أن أدلي به، وبكل صراحة، على الرغم من أنّها اقتلعت كل شيء في حياة الإنسان، وسحقت الناس المُعدمين، وحتى الأغنياء منهم الذين لم يخلصوا من ذلك، إلّا أنّه وبرغم ذلك كانت لها إيجابياتها، التي جسّدها شبابنا، وكل من كان فكر في الرحيل يوماً من سورية، وإن كان طواعية، وكل من رغب في ركوب طريق الغربة والرحيل إلى خارجها قبل اندلاع الثورة والحرب المدمّرة، وها هي اليوم حققت آمال الكثيرين من المعارف والأصدقاء، لا سيما أنها حققت جانباً مهماً في حياتهم، إن لم نقل أنّها جاءت رداً على الواقع المؤسي الذي تحَمّله المواطن وأوجعه الحال، فكانت صورة النصر في التغلب على الصورة المعيشية التي كانت تحمل تبعاتها، فضلاً عن حالة الذل الذي واجهها وما زال، ولمن بقي في داخلها بصورة خاصة!

وما يؤسف له، أنّ كثيرين ممن سنحت لهم ظروفهم وإمكاناتهم بالهروب ومغادرتها بعيداً عنها، نراهم اليوم يلعنون، الساعة التي فكروا فيها في الهجرة واللجوء بعيداً عنها، وكأنهم يريدون أن يقولوا لنا أننا كنا نعيش حياة مستقرة وآمنة، متوافرة فيها كل مطالب الحياة الحرّة الكريمة، وسبل الراحة التي تريح المواطن والنهوض بما يحتاج له.

فالغربة التي كنا نسمع عنها يوماً، والتي كانت مجرد حلم وردي، تراود أحلام الشباب، تحوّلت إلى واقع معاش، ولم تعد تؤرّق يومنا كما يظن البعض... ولن نقول أنّنا عشناها بقسوة، لا أبداً.. تلك الأيام التي قضيناها، وما زالت تظلّلنا بناسها، كانت من أجمل الأيام التي عاشها اللاجئون السوريون وغيرهم، فكانت أفضل بكثير مما كان متوقعاً.

هذه النداءت التي تنطق بها الألسن قبل القلوب، خاوية تماماً من حب الوطن، أو ما يسمى وطن. إنّها مجرد أفكار ساذجة يُراد منها تظليل الآخرين واستذكار الماضي بكل جدبه ومنغصاته!!

إنَّ أفضال البلاد الأوروبية وغيرها من البلدان الأخرى، التي أوت نزوح وتشرّد السوريين، كثيرة ولا يمكن بحال أن ينسوها أو يتناسوها يوماً.. فقد زرعت فيهم بهجة الحياة، وقدمت مجتمعةً الشيء الكثير لكل من وطأت قدمه أرضها.

الخدمات كانت تفوق التصوّر، ناهيك عن الاحترام والود، وكثيرا ما كنا نتأمل أن يتوافر ذلك للكثير من أهلنا في سورية وشعبها الطيّب البسيط الذي يُباد اليوم، وبدم بارد، من قبل قيادة مجرمة، لا ضمير يؤنبها، ولا ضير من أن تزيد من الفتك بشعبها، وتقتل من تريد ومن دون أي رادع من أحد!.

فالقتل هو معيار الحياة الذي ننشد.. وها هي المدن والبلدات، وحتى القرى السورية، صارت تُدك بآلة القتل والدمار ولم يثن أناسها عن البقاء، متشبّثين بأرضهم رغم مرارة الحياة وعفونتها، ما دفع أمة بكاملها إلى النزوح والغربة مرغمةً.

الإجرام الذي أماط اللثام عن أسرة حاقدة لا تعترفُ بالإنسان.. وكل ما يهمها هو الحصاد، الفوز بأي شيء باستثناء الإبقاء على الإنسان مجردا من إنسانيته!.

في البلاد الأوروبية، بصورة خاصة، التي احتضنت شبابنا الفارّين من هول ما حدث، وللأسف، وما قدمته لكل الناس الذين دفعوا الغالي والرخيص لينجوا بأرواحهم مجتازين بذلك البحر، بكل جبروته، واختزل الكثير من حياة أهلنا الذين كانوا ضحايا الدوّامة التي أنهكته.

وأكثر ما استغربه أنَّ الكثير من المهاجرين، ممن لجأوا إلى البلاد الأوربية، لا حديث يراود ذاكرتهم اليوم إلّا العودة إلى الوطن، والرغبة في تجسيد ذلك، متناسين الواقع المرير الذي يعيشه أهلنا هناك.. وحال الحرب الدائرة التي أتت على كل شيء!!.

ما مبرّر ذلك كله ما دام أنهم يعرفُون حقيقة ما يحدث؟!.
إنّها مجرد ترّهات يُشعرنا بها هؤلاء الذين يكثرون الحديث عن الوطن، ويتسابقون بذرف الدموع والتباكي عليه. هؤلاء الذين أرّقت الغربة مضجعهم، وأن الحياة لا يمكن لها أن تستمر بعيدةً عن الوطن!.

هكذا يدعون، في العلن، وأمام الناس، وهم في الحقيقة بعيدون كل البعد عن اللحاق بالوطن والعودة إليه، لأنهم لا يملكون مقوّمات العودة والعيش في وطن تهاوى، وفي الوقت نفسه لم يعد في الوطن ما يقوى أن يقدمه لأبنائه! فلماذا إذن كل هذا العويل والصراخ الذي لا يغني ولا يسمن من جوع..

وهذه الصور في الواقع لا أساس لها من الصحة بالمطلق! فالمواطن كان يعيش في فقر  مدقع، وحالة مزرية ميؤوس منها، وكان من الصعوبة بمكان تأمين أبسط احتياجاته الرئيسية، بدءاً من رغيف الخبز، إلّا بعد قضاء ساعات وساعات من الانتظار الطويل الممل والمقرف أمام نوافذ المخابز وأبوابها، وهو ينتظر دوره  عاجزاً عن الحصول على رغيف خبز يسدّ به رمق أبنائه، وانتهاءً بخدمة توفير الكهرباء، الحلم، وما زالت المشكلة قائمة ومستمرة، وإلى اليوم!

مشكلتنا تظل مع صراخ أمثال الكثير من المنافقين، الذين يصورون لنا الوطن وكأنه بستان من الزهور اليانعة، والعيش بعيداً عنه هذا يعني أن الحياة لا طعم ولا لون لها، في الوقت الذي أقول فيه، وبكل تجرد، أنَّ الحياة في بلاد اللجوء التي احتضنت المشرّدين السوريين الذي هجّروا من بلدهم، وركبوا خط السفر والتوجه بعيداً عن جور حكام طغاة وظلم وتعنت لم يسبق أن عاشه ابنها، واستوطنوا في بلاد الاغتراب، أفضل بكثير مما كانوا يعيشونه في بلدهم الأم الذي يتغنون ويفاخرون به، وهذا ما يبرر لهم وجودهم في بلاد النعيم، سواء أكان ذلك في الولايات المتحدة الأميركية، أو في كندا، أو أستراليا، أو دول أميركا الجنوبية، أو أوروبا، وحتى دول شرق آسيا، ودول الخليج العربي، مصر، الأردن، العراق، ولبنان.. وغيرها من الدول التي احتضنتهم.

كل هذا الدفع وهذا الوجود ساهم في حل مشكلتهم، ونبّههم إلى حاجة وحيدة ألا وهي أن حب الوطن شيء عظيم ولا يمكن أن يوازيه حب آخر في الحياة، لكن هذا لا يعني البقاء فيه والعيش بذل وعوز دائم، وعلى حساب الكرامة المهدورة، فالكرامة وصونها فوق كل اعتبار آخر!
ما أريد أن أصل إليه، والقذف به بين أيدي من يتابعنا، هو:

لنكن أمينين بما ننطق، وبما نعبّر به عن أخلاقنا وقناعاتنا، ولن نطلب من المهاجرين، الذين رحلوا وغادروا سورية واستقروا في بلدان رأفت بحالهم واحتضنتهم، وبكل حب، العودة إليها، فكانت بالنسبة لهم أفضل ألف ألف مرة من بلدهم الأم الذي ولدوا وعاشوا وقضوا سنوات من عمرهم فيه، وكانت الفرصة الوحيدة هي الفرار من وجه حكومة وقيادة ظالمة، وحياة مريرة كلها أسى، ومعجونة بالألم والعوز، ولم يفهم المواطن منها شيئاً، وكل ما فهمه سوى الفقر والحاجة، والعيش بذل حقيقي وفي جميع المدن والقرى السورية على امتداد الوطن.

 هذه الإهانة التي حملها ابن سورية على كتفه، وصبر على واقع أذلّه وألزمه بيته.. وفي نهاية المطاف نجد أن هناك من يصوّر سورية، والحياة فيها على أنها جنّة الله على الأرض.

هذا الكلام، أرجو أن يسامحني الجميع على أنه مبالغ فيه. صدقوني أنَّ سورية مثلها مثل أي بلد آخر، فهي أقل رخاءً، بل وتنقصها أشياء كثيرة وكثيرة جداً حتى يمكن أن نقارنها بغيرها، وما لقيه المهاجرون في البلاد التي وصلوا إليها، أقل ما هنالك رغيف الخبز الذي بإمكانك العثور عليه في كل وقت وبيسر، بدلاً من قضاء ساعات في البحث عنه للحصول عليه، فضلاً عن توافر الطاقة الكهربائية والتدفئة، علاوة على الخدمات الصحية والنقل المريح، وغيرها من أبسط المقوّمات الحياتية التي يحتاجها المواطن في سورية الذي ما زال وإلى اليوم يبحث عنها ليل نهار، ومن الصعوبة بمكان الحصول عليها مهما علا صوته..!!

هذه الصورة، ما زال وإلى اليوم يعيشها ابن سورية، وستبقى المعاناة قائمة ما دام أن النخبة الحاكمة الطاغية ومن حولها من الشبيحة وحدهم المستفيدون من جباية الوظائف التي يشغلونها وينهبون من خيراتها، وفي عزّ النَّهار، بعيدين عن المحاسبة. ستظل المعاناة كما هي، ولكن الزمن كفيل بلا شك بتغيير الصورة  سواء بعد أم قرب.

هذه النداءت التي تنطق بها الألسن قبل القلوب، خاوية تماماً من حب الوطن، أو ما يسمى وطن. إنّها مجرد أفكار ساذجة يُراد منها تضليل الآخرين واستذكار الماضي بكل جدبه ومنغصاته!!.

الباب لا يزال مفتوحاً لمن يرغب العودة إلى سورية ــ الوطن! فأيّ عودة ينشد هؤلاء المغالين في ظل واقع خدمي متردٍ هشّ ملول. تغيب فيه مقومات العيش.. وأشياء كثيرة يصعب ذكرها..

تفضلوا.. البلد ينادي أبناءه للعيش، وبكل حرية، في بؤر من الفساد والخيانة والكذب والحاجة، وغياب أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، ناهيك بالفقر المدقع، والغلاء الفاحش، وصور مؤسية ما أنزل الله بها من سلطان. هذا هو حال البلد اليوم !!

بقي أن نشير إلى أن هناك البعض ممن يدافعون عن النظام المجرم، طبيعي أنه سيكون لهم رأي آخر، وهذا ليس بغريب عليهم لأنهم يظلون قريبين منه، ومستفيدين من عطاءاته، ومندسين بين صفوفه، وهم من المقيمين فيه أو الزائرين له، ومن المحال أنهم يرمون حكومتهم بحجر. وأنَّ التفاخر والتعامي عمّا حدث، والدفاع عنها ورمينا بأخس العبارات هو سلاحهم وديدنهم الوحيد، وإنَّ النظام القاتل، الذي يُصرّ على الفتك بالناس والاحتفاظ بكرسيه، فإنه إلى زوال طالت الأيام أم قصرت!.

فلنكن أكثر احتراماً لأنفسنا أولاً بدلاً من أن نقف مخدوعين بهذه الحكومة الضالة المجرمة، فالحياة في ظلّها تظل مستحيلة! والمقارنة بين ما كنا نعيش وما نسعى إليه اليوم، فالبون ـ بالتأكيد ـ شاسع ولا يمكلأمؤن تجاوزه.

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.