عن الصداقة والأصدقاء

عن الصداقة والأصدقاء

31 يوليو 2020

(ضياء العزاوي)

+ الخط -

يفاجئك ظهيرة أمس أنك في يوم الصداقة العالمي، بحسب الأمم المتحدة منذ قرارها هذا في العام 2011، فلا تعرف ماذا تصنَع لإحياء هذه المناسبة الكونية. جاء على بالي، وقد عرفتُ أنني في يومٍ عالمي، وأن عليّ أن أشارك الإنسانية (جمعاء طبعا) بالمناسبة المُهابة هذه، فزعٌ كان قد أصابني، لمّا شاهدْتُ، قبل عامين، دريد لحام، تسأله مذيعةٌ في محاورةٍ تلفزيونيةٍ عمّن هم أصدقاؤه من بين عشرات الفنانين الذين شاركوه في أعماله التلفزيونية والسينمائية والمسرحية نحو خمسين عاما، فيجيب إن هؤلاء زملاء وليس فيهم صديقٌ له. استشعرتُ أن المذيعة الشابّة ربما استغربت الإجابة، فعقّبت على ما سمعَت بسؤال ضيفها (في منزله في دمشق) عمّ يمكن أن يقوله على الشاشة (فضائية الميادين) إلى شريكه الأهم في أغلب أعماله، الراحل نهاد قلعي، فأجاب دريد بما هو أفدح، قال إنه عتابٌ لديه يمكنه أن يرسله إلى نهاد، غير أن المقام ليس مناسبا. .. أي بؤسٍ، إذن، يقيم في حشايا هذا الرجل، الفنان الذي كان يشيع البهجة في منازلنا، إذ لم يستطع أن "يُنجز" صديقا في كل سنوات شغله ممثلا. ولكن مذكّرات رفيق السبيعي جاءت على سوءٍ فيه. وقبل ذلك كله وبعده، هو يوالي النظام القاتل في دمشق، ويبخل بكلمة تعاطفٍ تجاه الضحايا والمهجّرين من بني جلدته.

أما الشاعرة رشا عمران، فتكتب في "العربي الجديد" (18/7/2020) إن الصداقة لا تحتمل الوسطية، فأن تكون صديقا لأحدٍ يعني أن تقف معه في كل حالاته، أن تقبله كما هو، وأن تقبل أخطاءه، وأن تدافع عنها، خصوصا في الأزمات والمحن والأمور المصيرية. ويبلغ الأمر عند رشا أن تقول إنها لا تقبل من أصدقائها نصف الموقف، في ما يخصّها في أزماتها ومعاركها، ولا يليق بها كصديقة أن تقف نصف موقفٍ تجاه ما يتعرّض له أصدقاؤها. والقول عندي بشأن "جذرية" صديقتنا الكاتبة الرائقة إن كلامها هذا رسوليّ، وبالغ السمو، يشفّ عن روحٍ رواقيةٍ، فيما تصاريف الحياة تضطرّنا إلى مقادير من الواقعية في النظر إلى الأشياء، فالحوادث بتفاصيلها، وليست بقواعد ومطلقاتٍ عامة. وليس في الوسع دائما أن يأخذ واحدُنا المواقف المطلوبة غير منقوصة. والتجربة وحدها المختبر الأصلح لإنتاج الرؤى بشأن الصداقة، وإنْ ثمّة من حِكم الأولين والمجرّبين ما يفيد. وهذا حال كاتبِ هذه الكلمات لم يأخذ بنصيحة ابن الرومي "../ فلا تستكثرنّ من الصحاب" لا ينفكّ أصدقاءُ له يصيرون أصدقاء سابقين. إما يغادرون صداقتَه أو هو يغادر صداقتهم، بفعل قلة الإتصال والتواصل، أو بمصادفته ما لم يكن يعلمه فيهم، أو مصادفتهم ما لم يكونوا يعلمونه فيه، أو بسبب احتكاكاتٍ غير محسوبةٍ في زمالة عملٍ. وأيضا لأن الصداقة، أصلا، تشيخ وتموت، أو تضعف وتذبل، إذا ما لم تراعَ ولم يُعتنَ بها ولم يصُنْها طرفاها بالسؤال وتبادل حاجة الآخر للآخر، فإذا أمعنتَ في الغياب عن أصدقائك بادروا إلى نسيانك. وربما غالى، بعض الشيء، من قال إن من لم يعد صديقَك لم يكن صديقَك أبدا. وأيا كان الحال، ثمّة "استحقاقاتٌ" للصداقة، من قبيل أن يحتمل طرفاها "عيوب"  كلٍّ منهما، ولا أظنّ أن أمورا كهذه (وغيرها) في حاجةٍ إلى أن يتعالَم أحدٌ على أحدٍ بشأنها. 

صحّ القول إن الصداقة لا تُقاس بمدى قوّتها وإنما بقدرتها على الاستمرار. وصحيحٌ أن ما يتسبّب في الزيجات التعيسة ليس غياب الحب، وإنما غياب الصداقة بين الزوجين، وذلك ربما لأن في مقدور الإنسان ألا يتزوّج، غير أنه إذا كان بلا أصدقاء فإنه غير سويّ نفسيا. على أنه، عندما يلحّ التربويون على أهمية أن تتعدّد صداقات الأطفال، فإن الإنسان، مع تقدّمه في العمر، وعبوره بواباتٍ كثيرةً في الدنيا، سيرى في نفسه حاجةً إلى التخفّف من العلاقات الكثيرة، فيأنس إلى مقادير من العزلة، ولكنه يبقى في حاجةٍ إلى أصدقاء مقرّبين (من الأفضل أن يكونوا قليلين)، يرتاح للتباسط معهم، والمداولة وإياهم، يحتملونه ويحتملهم، فالصداقة، في ظنّي، حاجة، وهذه طبعا ليست الصداقة الافتراضية الكمبيوترية، والتي يراها بعضٌ بين ظهرانينا بدائل عن الصداقات الفعلية الإنسانية المحضة. وذلكم استطلاعٌ أبان قبل أعوام تراجع علاقات الصداقة بين الأميركيين. ولا حاجة بي لأي استطلاعٍ، لأعرف ما أشهد وأسمع، عن صداقاتٍ تموت، أو تتآكل، لألف سببٍ وسبب. وفي العموم، ليست حالة دريد لحام، بالغة الشذوذ، قياسا.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.