عن الدولة الأردنية الأردنية

عن الدولة الأردنية العميقة

14 يونيو 2019
+ الخط -
تضمنت رسالة العاهل الأردني، عبد الله الثاني، إلى مدير المخابرات المعين حديثا، نقدا علنيا وغير مسبوق لأداء بعض عناصر الجهاز الذي يمثل الذراع الامني والاستخباري في البلاد، وأحد أهم مراكز القوى وأكثرها نفوذا في البلاد. وجاء هذا النقد على خلفية ملاحظات أطلقها الملك قبيل قراره بشأن من سماهم المشككين، والذين يعملون على توسيع الهوة بين النظام السياسي والأردنيين، ويحدثون حالةً من الارتباك والشكوك التي تطاول أي تصريح أو قرار رسمي.
لعل الملك أشار، في أكثر من محطة، إلى من سماهم "هم"، الذين يفتعلون تلك الأزمات، ويعطلون التوجهات والرؤى الملكية في كل الملفات، وتحديدا السياسية منها. لعل تلك الإشارات بحاجة إلى فحص محطات التفارق بين النظام السياسي الأردني ورأسه، وما هي المحطات التي مرت بها تلك العلاقة تاريخيا وهذه الأيام.
يمكن اعتبار إطاحة حكومة سليمان النابلسي في 1957، وهي التي لم تستمر سوى خمسة شهور، المحطة الأولى التي دشنت تبلور خيار مؤسسات الدولة ودورها في صناعة القرار، إذ كانت تلك المؤسسات، طوال عهد الإمارة ولاحقا حتى بداية تأسيس المملكة، في فترة تبلور، برز خلالها الجيش الذي كان مطلب طرد القادة الإنكليز منه بداية هذا المسار الذي تُرجم بقرار ملكي بتعريب الجيش.
بقيت البيروقراطية الأردنية ومؤسسات الدولة في إطار العمل الوطني، وبناء مؤسسات الدولة وصروحها، إلى أن جاءت محطة أيلول 1970، والتي أدت إلى إنجاز تسوية مؤلمة، انتهت بأردنة الإدارة العامة، في الوقت الذي بات سؤال الممثل الشرعي والوحيد عنوان الحالة الفلسطينية. وقد شكلت تلك التسوية بدايةً لإنجاز عدة تسويات داخلية، كانت تقوم، في الأساس، على منطق المحاصصة، وهو المخرج الوحيد للوصول إلى السلطة والثروة، وهو ما أدى إلى نشوء الهويات الفرعية وتعززها، وهي التي أحالت المجتمع الأردني إلى جزر معزولة على شكل "غيتو"، تتربع على رأس هذه التقسيمات نخب محلية، تعمل على تأمين مصالح قواعدها الاجتماعية، وضمان ولاء تلك القواعد للنظام السياسي. وأدى ذلك الانغلاق إلى نشوء حالة من التنازع الداخلي في البنى المعزولة، إضافة إلى أن ممثليهم السياسيين عمدوا إلى تحويل مؤسسات الدولة إلى اطارهم الخاص، بغية ضمان ولاء تلك البنى لممثلهم السياسي الذي يتربع على رأس السلطة.
لعل محطة عام 1989 كانت أهم اختبار لتلك البنية، إلا أن مؤسسات الدولة والبيروقراطية 
تمكّنت من الالتفاف على ذلك التحوّل واستيعابه، وتحويل تلك اللحظة التاريخية إلى فرصة لتجديد نفوذها وهيمنتها، خصوصا ما بعد اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية التي كانت صمام الأمان لتلك النخب، لمنع النظام السياسي من الذهاب إلى إنجاز تحول ديمقراطي عميق، يأتي بقوى سياسية معادية لتلك الاتفاقية.
مع انتقال المُلك إليه في العام 1999، وجد الملك عبد الله الثاني، القادم من خارج عوالم السياسة، بنية معقدة من المصالح المتضاربة، الأمر الذي دفعه إلى الذهاب إلى إنجاز تحوّل على بنية تلك الأطراف من خلال تفكيك مؤسسات الدولة وبيعها، انسجاما مع المسار الليبرالي والنيوليبرالي المهيمن دوليا، وهو ما أحدث اندلاع مواجهة غير معلنة بين تلك القوى والقصر، وأدت موجة الربيع العربي إلى إنجاز تسوية بين الطرفين، ولكن بعد أن تهدمت سمعة الطرفين وصدقيتهما، خصوصا أن النخب البيروقراطية ساهمت في صياغة رأي عام، يحمل مؤسسة القصر المسؤولية عن الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
لعل أزمة النظام السياسي تنبع من الصورة المشكلة عنه، وكذا الانطباع العام عنه، والمتمثل في ثنائية الفساد والاستبداد. واستنادا إلى مفهوم أن الثقافة السائدة هي نتاج للطبقة السائدة، يكون المزاج العام عمليا خاضعا تماما لتصوّرات مراكز القوى التي خسرت مكانتها الاجتماعية والاقتصادية، بعد بيع مؤسسات الدولة ظهيرها الاقتصادي، وسعي النظام إلى تجاوز تلك النخب، نحو إيجاد نخبة بديلة، مستندةً إلى منطق بديل، عنوانه الاعتماد على الذات، بدل الاعتماد على الإعانات.
وسط هذا المأزق، تحاول نخبٌ شابةٌ ومستقلةٌ صياغة خيارها الوطني، بعيدا عن رغبة النظام في إيجاد نخبته البديلة، وبعيدا عن سعي الدولة العميقة إلى توظيف حالة الاحتقان والأزمة الوطنية من أجل إعادة إنتاج ذاتها.
ولعل أبرز التحديات التي تواجه البيروقراطية الأردنية اليوم هو عجزها عن إنتاج نخب جديدة أو خطاب جديد قادر على إعادة صياغة علاقتها مع النظام السياسي ومع قواعدها الاجتماعية، فيما تبقى القوى الوطنية الصاعدة أمام تحدّي قدرتها على إعادة صياغة العلاقة الأردنية الأردنية متجاوزة الهويات الفرعية، وإنجاز تسوية أردنية فلسطينية، متجاوزة حالة انعدام الثقة والخطاب المعلب عن وحدة وطنية قلقة.
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
منصور المعلا

كاتب ومحلل سياسي اردني، بكالوريوس في العلوم السياسية

منصور المعلا