عن الدعوة في تونس إلى حل البرلمان

عن الدعوة في تونس إلى حل البرلمان

14 يونيو 2020

مشهد لجلسة مجلس النواب التونسي في 9/6/2020 (الأناضول)

+ الخط -
تعيش تونس منذ أسابيع على وقع دعوات إلى حل البرلمان تصدر عن خليطٍ من طيف سياسي، لا يجمع بين مكوناته متن أيديولوجي أو سياسي موحد. تصدر عن أصوات عديدة يصعب أن تفرزها بيسر، ولكنك تستطيع أن تتبين ملامح بعض منها، خصوصا ممن تبنوا الدعوات، وانتقلوا إلى قنوات إعلامية رحبت بهم، وقدّمت نداءهم للزحف على البرلمان وإنهاء أشغاله طبقا شهيا لدعاة الفوضى والانقلاب على المنجز الدستوري ومسار الانتقال الديمقراطي عموما. نستطيع من دون عناء كبير أن نلمح ثلاثة توجهات كبرى: بعض أنصار النظام السابق الذين شعروا أن المسار السياسي الحالي، ومؤسسات الدولة التي استقرّت، إلى حد ما، تجعلهم في مواقع خلفية بحكم الانضباط لمقتضيات الدستور، وذلك ما يقلص هامش المناورة و"التشويش المجدي". والأرجح أن يكون ذلك ضمن توسيع المهام وإعادة توزيعها مجدّدا بين أفراد هذه العائلة الدستورية التجمعية (حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل). وقد تولت رئيسة الحزب الحر الدستوري ورئيسة الكتلة النيابية نفسها، عبير موسي، تعطيل أشغال البرلمان وتشويه صورته بالاعتصامات المتكرّرة التي وصلت حد المبيت داخل المقر، ومنع عقد الجلسات، فضلا عن تقديم مبادرات تهدف في جلها إلى إزاحة رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، من موقعه، وتصنيف حزبه، حركة النهضة، منظمة إرهابية. 
ويتكون التيار الثاني من بعض "جرحى الانتخابات" الذين ألقت بهم صناديق الاقتراع خارج قبة البرلمان، وجل هؤلاء من اليسار الراديكالي الذين أقصتهم أصوات الناخبين. وقد اكتشف هؤلاء 
أن خطابهم الإقصائي وتعنتهم العدمي المعارض كانا سببا في الفشل. وعلى الرغم من ذلك يعيدون الأخطاء نفسها، على الرغم من المراجعات التي انشغلوا بها منذ أسابيع. ويشعر هذا اليسار أنه تمت إهانته، ولذا يدفع بعض منه، من خلال تصريحات علنية في قنوات ومحطات إذاعية وتلفزيونية، إلى إطلاق انتفاضة شعبية، تضع حدا لهذا البرلمان، وما انبنى عن نتائج انتخابات 2019.
وأخيرا، يشمل التيار الثالث المحسوبين على أنصار الرئيس قيس سعيد، ومعتنقي أطروحة "الديمقراطية المحلية المباشرة" التي تستند إلى مزيج سياسي فلسفي يقوم على رفض الديمقراطية التمثيلية، ويقترب من أطروحات المجالس المحلية و"الوكالة" في ما يشبه التجربة الجماهيرية التي قادها الراحل معمر القذافي، وهو التوصيف الذي اختاره الجامعي المرموق المختص في القانون الدستوري، عياض بن عاشور، متحدثا عن هذا التيار الذي يتزعمه تلميذه الرئيس قيس سعيد. وعلى الرغم من تبرؤ الرئيس علنا من هذه الدعوات، فإن جيشا افتراضيا شديد التنظيم والانضباط يناضل من أجل الإقناع بهذه الأطروحة، وفرضها إن لزم الأمر.
ومع أهمية التعبئة التي يقوم بها هؤلاء، سواء من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر مختلف المحطات الإذاعية أو التلفزية التي تحتفي بهم وتقدّم أطروحاتهم، فإن الأمر لا يمكن تفسيره بمجرد العودة إلى هذه العوامل الخارجية التي تظل تتربص بالبرلمان ومؤسسات الحكم التي نص عليها الدستور، وجدّدت شرعيتها انتخابات 2019. ذلك أن بوادر الهشاشة قد لاحت مباشرة إثر الإعلان عن نتائج الانتخابات خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول الفارط، فنظام الحكم، فضلا عن قانون الانتخاب المعتمد، أعطيا هذه المرّة نتائج جعلت تقريبا مهمة تشكيل حكومة أمرا شبه مستحيل.. لقد أسقط البرلمان حكومة الحبيب الجملي الذي اقترحته حركة النهضة، ثم ذهب الفرقاء إلى ما ينص عليه الدستور، على الرغم من بعض "الإبهام" الذي تولى رئيس الجمهورية تأويله وفضه في غياب محكمة دستورية، ثم اضطر لتعيين ما عرف بـ"حكومة الرئيس" التي ما أن باشرت مهامها حتى حلت جائحة كورونا. وتبدو تونس، وهي تخرج منتصرة صحيا على الوباء، وكأنها تحصي خسائرها السياسية، لا شيء يوحي بأن البلاد حققت منجزا استثنائيا في محيطٍ عربيٍّ نعلم ملامحه. على خلاف كل التوقعات، لم تفلح البلاد في رسملة انتصارها على الوباء، لتذهب موحدة، حتى تنهي إتمام معركتها على جبهات حيوية: مقاومة البطالة، تردّي الخدمات الاجتماعية، تحسن معاش الناس، بل على العكس انبرى الجميع يخوص معركة الكل ضد الكل.
نتائج الانتخابات، وصعود فسيفساء سياسية متوترة، وغياب شخصيات توافقية بعد رحيل الرئيس الباجي قائد السبسي رحمه الله، أدّى إلى عطبٍ يكاد يشل المؤسسات الثلاث، رئاسة الجمهورية 
والبرلمان والسلطة التنفيذية، فرئاسة الجمهورية تعيش حالة توحد سياسي، إذ يشعر الرئيس قيس سعيد، لقناعته السياسية الشعبوية، بأنه منقذ تونس الأوحد، وأن الإرادة الشعبية فوّضت له أمر البلاد والعباد. في تصريحاته العديدة، تحرّش الرئيس بالدستور وقزّمه، محرّضا الشعب على نسف المنجز المؤسسي، لكونه لا يفي الشعب حقه. كرّر هذه العبارات في كل المدن التي زارها، ولم يتورّع، حتى وهو داخل الثكنات، عن ترديد هذه الأفكار والعبارات. أما البرلمان فقد تحوّل، في الأسابيع الأخيرة، إلى ما يشبه "السيرك" الذي لم يعد قادرا حتى على إضحاك الناس، ما جعل عديدين يطالبون بوقف التغطية الإعلامية المباشرة لأعماله التي تتولاها القناة التلفزية العمومية، من فرط الإسفاف الذي بلغته بعض المداخلات، فقد تحول المجلس النيابي في وضعه الراهن عبئا على البلاد والتحوّل الديمقراطي برمته. وبشأن الحكومة، فلم تسلم من النيران الصديقة التي أطلقها حلفاء الحكم في البرلمان على بعضهم بعضا: اتهامات بالعمالة والتواطؤ مع الإرهاب والفساد كالتي دارات بين حركة الشعب ذات الميول القومية وحركة النهضة. وقد اتسعت هذه المناوشات والاشتباكات الحادّة لاحقا، لتشمل حزب تحيا تونس على خلفية تهم فساد. ويبدو أن رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، في تصريحاته أخيرا، لم يعد مقتنعا ببقاء حركة النهضة مطولا في حكومة فقدت مبدا التضامن الحكومي والثقة بين مكوناتها، بل تحول فيها الحلفاء إلى ألد معارضي بعضهم بعضا.
لا توجد حلول كثيرة، بقطع النظر عن أبوابها الدستورية والقانونية، فإما أن تتوسع الحكومة لتضم حزب قلب تونس، صاحب ثاني كتلة برلمانية أو تنحل الحكومة، ما يفضي إلى مسارات أخرى تظل واردة، ولا تستثني الذهاب إلى انتخابات مبكرة. والأرجح أن يقبل رئيس الحكومة بتعديلات غدت ضروريةً لإصلاح عطب يقع خارجها، البرلمان تحديدا. وقد رفضت "النهضة" التوقيع على "وثيقة التضامن والاستقرار"، لأنها تعلم أن الحليف الحقيقي في البرلمان كان حزب قلب تونس الذي بفضله ترأس الغنوشي البرلمان هذا. وليس من النبل في اعتقادها أن تظل قابلة استبعاده من تمثيله في الحكومة، والموافقة على الاعتراض الذي رفع في وجهه. وليس معلوما موقف رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ، من هذا المطلب الذي غدا واضحا وغير ملتبس. ولكن الأرجح أن يتدرج في السير إلى هذه المحطة المقبلة، وليس معلوما إن كان عليه أن ينزل ركابٌ ليصعد آخرون في عربة الحكومة. ولكن مهما كانت السيناريوهات الواردة، فإن هذه الحلول ستظل ترقيعية، تطيل أنفاس أزمةٍ لا يمكن أن نتجاوزها إلا بمراجعة عميقة لنظام الحكم الذي أقرّه الدستور والقانون الانتخابي المعتمد. فضلا عن ثقافة سياسية لم تتصالح مع القبول بالشرعية والمشاركة بحجم الفوز على قاعدة المسؤولية. قواعد اللعبة لم يتم سنها بعد على الرغم من كل المنجز الدستوري والتشريعي.. لذا يردّد بعضهم "ألعب معكم عنوة أو أفسد اللعبة"، فيجيبه جمهور عريض: نحن معك، أفسخ النتيجة ولنعد اللعبة حالا...
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.