عن الجوائز الأدبية والبيئة الثقافية

عن الجوائز الأدبية والبيئة الثقافية

03 مايو 2016
لوحة للفنانة الأميركية كاثرين حنان ملكي (Getty)
+ الخط -
يُقَدِّمُ الصحفي على إحدى القنوات الفضائية العربية الفائز بجائزة "بوكر" العربية لعام 2016 على النحو التالي: "روائي مرموق، والدليل أنه حاز على جائزة البوكر هذا العام". 
هكذا، وبجملة عابرة، يتم توصيفٌ للجائزة لم يسع إليه من أنشأها: أن تصير في ذاتها مرجعية نقدية سابقة على ـ إن لم تكن لاغية لـ ـ كل معيار نقدي أدبيّ آخر. وقبل ذلك، كان ثمة توصيف آخر طاول هذه الجائزة وقامت به الصحافة العربية حين قررت مثلاً أن يحلُّ اسم "جائزة بوكر العربية" محل الاسم الأصلي: "الجائزة العالمية للرواية العربية". كما لو أن الاسم مع رنين غربي يبقى أصدق إنباءً مما يمكن أن يأتي به اسم عربي.

ليس من الممكن مع ذلك ردُّ صدقية هذه الجائزة بعد عشر سنوات من إنشائها إلى الاسم، رغم التعاون القائم بين المؤسسة العربية الداعمة ومؤسسة بوكر البريطانية. إنها تؤكد بالأحرى الجهد المنهجي الصارم الذي بذله المشرفون عليها من أجل ترسيخ وجودها وتوصيف سمعتها ومحاولة تحقيق هدفها. لكن دلالة توصيف الصحافة العربية تنبئ عن وجود مشكلة ما.

هذه المشكلة على كل حال لا تتجلى، قطعاً، لا في فكرة "الجائزة العالمية للرواية العربية" التي صارت مؤسسة وممارسة، ولا في التعاون مع مؤسسة أجنبية من أجل الاستفادة من خبراتها في التنظيم وفي النشر بالإنجليزية. إذ لم يكن الهدف المُعلن من إنشائها أن تصير المرجع في تقييم ما ينشر من روايات بقدر ما تمثل أساساً في التشجيع على قراءة الرواية عموماً والتركيز خصوصاً على قراءة تلك التي تقوم لجنة التحكيم باختيارها لنيل الجائزة، وعلى العمل على ترجمة هذه الروايات إلى اللغة الإنجليزية التي يمكن اعتباراً منها أن تترجم إلى لغات أخرى، أوروبية وغير أوروبية، كي يُفتح المجال واسعاً أمام التعريف بالإبداع الروائي العربي في العالم. وإنما تتجلى في الطريقة التي اعتمدتها الصحافة العربية لا من أجل "تسويق" هذه الجائزة لدى جمهور القراء فحسب بل في فهم معناها ودلالاتها أيضاً. وهي طريقة لا بد لها في الحالة الثانية خصوصاً من أن تسيء إلى الجائزة وأن تقيم عقبات لا حصر لها أمام تحقيق أهدافها.


إذ لم تكن أي جائزة في العالم يومًا ما ولم تتطلع إلى أن تكون معياراً نقدياً يلغي المعايير الأخرى أو يخرسها أو يتفوق عليها، بل كانت تهدف على الدوام إلى إغناء البيئة الثقافية والأدبية بالنقاشات والسجالات النقدية قبل منح الجائزة وبعد منحها، وإلى زيادة عدد القراء، ودعم الناشر بما يتيحه له مردود المبيعات من ممارسة مهنته، وتشجيع الكاتب بما يجنيه من موارد بيع روايته الفائزة ومردود بيع أعماله اللاحقة بسبب ما يكتسبه من شهرة. ولنا في أقدم وأشهر جائزة للرواية تمنح في العالم، أعني جائزة غونكور الفرنسية، أكبر مثل على ذلك.

فقد أراد الأخوان غونكور إحياء الأجواء والمنتديات الأدبية التي عرفتها فرنسا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولم يتسنَّ لإدمون دو غونكور، بعد الوفاة المبكرة لأخيه جول، تحقيق هذه الإرادة إلا حين أسس الجمعية الأدبية التي صارت "أكاديمية" يعارض بها الأكاديمية الفرنسية التي رفضت بوصفها "مجمع الخالدين" أن تمنح صفة "الخلود" لعدد من كبار كتاب القرن التاسع عشر من أمثال بلزاك، وفلوبير، وزولا، وموباسان، وبودلير. وقد أراد بها استمرار هذه الأجواء بعد وفاته هو الآخر عام 1896، فكانت وصيته أن تقوم أكاديمية غونكور هذه بمنح جائزة سنوية لمُبدع تخييلي نثري حملت اسمه وصارت حدثاً أدبياً سنوياً كبيراً يشغل على امتداد عدة أشهر الصحافة الأدبية والنقاد مثلما يشغل الناشرين والمكتبات والقراء.



لكن نجاح هذه الجائزة واستمرار هذا النجاح على كل الأصعدة منذ مائة وأربعة عشر عاماً كان نتيجة تضافر جهود شارك فيها الصحافيون والناشرون والأدباء مثلما شارك فيها القراء أيضاً وعلى نحو حاسم. فقد صارت الأشهر الثلاثة الأخيرة في فرنسا من كل عام، ولا سيما بعد أن تكاثرت جوائز الرواية إلى جانب الجائزة الأم، موعداً ثقافياً بامتياز، تتصدر خلالها واجهات المكتبات الروايات الجديدة، وتمتلئ الصحافة الأدبية بالمراجعات النقدية لمعظم ما صدر من كتب في كل المجالات مع التركيز بالطبع على الروايات. وحين تصدر اللجنة قرارها تستأنف، في الملاحق الأدبية للصحف اليومية والمجلات الأسبوعية أو الشهرية وكذلك في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، السجالات الأدبية، والتعريف بالروائي الفائز وبكتاباته من خلال المقابلات والمقالات أو الندوات الإذاعية والتلفزيونية، وهي سجالات لا تخلو في كثير من الأحيان من التعبير عن الاختلاف مع تقييم اللجنة الأخير. لكن الأهم يتمثل في دور القراء الذين يقبلون بمئات الألوف على شراء الرواية الفائزة، بل وفي كثير من الأحيان على شراء الروايات المتنافسة معها حباً في المقارنة. وهو ما يمثل الجائزة الحقيقية للناشر وللروائي معاً لأنه سيعود عليهما بمردود مالي شديد الأهمية يسمح للأول بتطوير وازدهار مهنته، ويتيح للثاني من خلال الحصول على حصته من مردود المبيعات التي تقدر بثلاثة ملايين يورو خلال الأسابيع الثمانية الأولى التي تلي منح الجائزة، ضمان استقلاله المالي واستمراره كاتباً يعيش من مهنة الكتابة.

لكن الأهم بالنسبة إلى الروائي كسبه عدداً كبيراً من القراء سيؤلفون من بعدُ جمهوره شبه الدائم طالما استمرّ في الكتابة وفي الإنتاج.

لقد أتاح تضافر هذه العناصر الثلاثة (قوانين النشر، والصحافة الأدبية، والقراء) لجائزة غونكور أداء الدور الذي أنيط بها. ومن المؤسف افتقار البيئة الثقافية العربية إلى تواجد العناصر كلها وإلى مثل هذا التضافر كي يتيح للجائزة العالمية للرواية العربية أداء دورها. ففي حين يخضع النشر في فرنسا لقوانين تنظم الحقوق المالية والمعنوية لطرفيه: الناشر والكاتب، لا يزال العالم العربي يفتقر إلى مثل هذه القوانين الناظمة وإلى تطبيقها إن وجدت بصرامة.

وفي حين تتمتع الصحافة الأدبية في فرنسا باستقلالية وحرية كاملتين، لا تزال الصحافة الأدبية في عالمنا العربي خاضعة لأهواء النظم السياسية أو لأهواء ممولي هذه الصحيفة أو تلك. وفي حين أن القراء في فرنسا يعثرون بسهولة على الرواية الفائزة لشرائها من أقرب مكتبة، يُحرم القراء العرب في أغلب الأحوال من الحصول على الرواية الفائزة في بلادهم بسبب قوانين الرقابة التي لا تزال في عالمنا العربي مسلطة على كل ما يتعلق بالفكر والأدب.

هذا ما يجعل من الجوائز في العالم العربي حدثاً إعلامياً عابراً أكثر منه حدثاً ثقافياً، وربما هو ما يجعل من بعض الإعلاميين مولعين بالاسم الأجنبي للجائزة ومن الجائزة ذاتها معياراً نقدياً بامتياز!

المساهمون