عن الجنسية الفرنسية لرئيس الحكومة التونسية

عن الجنسية الفرنسية لرئيس الحكومة التونسية

29 اغسطس 2019
+ الخط -
مرّت ثلاث سنوات على تولي يوسف الشاهد رئاسة الحكومة التونسية، بتكليف من رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي، وبدعم من حركة النهضة (الإسلامية) وحركة نداء تونس (اللائكية)، الحزبين اللذيْن أمّنا أغلبيته البرلمانية الضرورية لممارسة السلطة والاستمرار في هرم الدولة. لا أحد من الطبقة السياسية كان يعلم أن الشاهد يحمل الجنسية الفرنسية، بالتوازي مع جنسيته التونسية، باستثناء أسرته ومقرّبيه وحاشيته التي يسرّ لها ما يخفيه عن الآخرين. وقد بلغ به الأمر أن أخفى انتماءه الفرنسي على البرلمان التونسي المنتخب سنة 2014، الذي منحه الثقة بأغلبية 167 نائبا سنة 2016، وكان مصدر شرعيته ووجوده في الحكم. استغلّ الشاهد ثغرة دستورية عميقة، تضمّنها دستور تونس لسنة 2014، مفادها عدم التنصيص على أحادية جنسية رئيس الحكومة، وعدم اشتراط اقتصاره على الجنسية التونسية، كما رئيس الجمهورية الذي خصّه الدستور نفسه، وفيه: "يشترط في المترشّح يوم تقديم ترشحه أن يكون بالغا من العمر خمسا وثلاثين سنة على الأقل. وإذا كان حاملا لجنسية غير الجنسية التونسية، فإنه يقدم ضمن ملف ترشحه تعهدا بالتخلي عن الجنسية الأخرى عند التصريح بانتخابه رئيسا للجمهورية"، فمن وضع الدستور لم ينتبه إلى أن موقع رئيس الحكومة في المجتمع والدولة التونسيين لا يقلّ أهمية وقيمة وتأثيرا عن دور رئيس الجمهورية الذي أجبر دستوريا على الاقتصار على الجنسية الوطنية، بل إن رئيس الحكومة هو الأوسع سلطاتٍ وصلاحياتٍ ورمزياتٍ في النظام البرلماني المعدل الذي أقرّه الدستور التونسي. وكما سكت الدستور على الازدواجية في الجنسية لدى رئيس الحكومة، أهملها بالنسبة للنواب والوزراء
وكتاب الدولة والسفراء والقناصل والمستشارين المكلفين بمهام في دواوين الوزراء ورئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ومختلف رموز الدولة، وكل من هو مؤتمن على المناصب القيادية في الدولة، بما في ذلك الهيئات الدستورية التي تستوجب الأمانة، وحفظ الأسرار والتعامل مع الأجنبي بحذر شديد وواجب التحفظ وإعلاء المصلحة الوطنية، وارثا هذا التوجه عن النظام المؤقت للسلطات العمومية الذي وضعه المجلس الوطني التأسيسي في بداية عمله سنة 2011، والذي بموجبه استطاع مهدي جمعة تولي رئاسة الحكومة، وممارسة الحكم طوال سنة 2014، بجنسيته الفرنسية، بالتوازي مع جنسيته التونسية، مدعوما من رباعي الحوار الوطني آنذاك، خصوصا اتحاد العمال والأعراف والأحزاب التقليدية، ممثلة في نداء تونس بقيادة السبسي وحركة النهضة بزعامة راشد الغنوشي.
سوّق رئيس الحكومة التونسية بأنه أشهر جنسيته الفرنسية، وطلب من السلطات الفرنسية سحبها منه، استجابة لشرط دستوري، بوصفه مرشّحا لرئاسة الجمهورية التونسية، إلا أن الشاهد وفريقه الاتصالي لم ينشرا ما يفيد تقدّمه بطلب سحب الجنسية من السلطات الفرنسية، بل أقرّ ما كشفت عنه تلك السلطات، لمّا أسقطت عنه جنسيته الفرنسية، ونشرت ذلك الإسقاط في المجلة الرسمية الفرنسية يوم 20 أغسطس/آب الجاري، لدواعٍ يفرضها القانون الفرنسي الذي ينص على سحب الجنسية الفرنسية من كل مواطن فرنسي يتولى وظائف عليا عسكرية ومدنية في دولة ثانية. وعلى عكس دعوته إلى الأخلاق في الحياة السياسية، وإمضاء ميثاق شرف سياسي بين مختلف القوى السياسية التونسية، يضع حدا للسقوط القيمي الذي ضرب سوق السياسة في تونس، والكثير من فاعليها، كرّس يوسف الشاهد مبدأ إخفاء الحقيقة، لمّا أخفى عن التونسيين، وممثليهم المنتخبين في البرلمان، وهو السلطة الأصلية والتشريعية، جنسيته الفرنسية التي يحملها بالتوازي مع جنسيته التونسية، سنوات متتالية. توجد محاولة من أنصار الشاهد وحزبه تحيا تونس، لتغيير وجهة النقاش بشأن ازدواجية جنسية رئيس الحكومة، وحمله جنسية الدولة الاستعمارية القديمة، وهو أحد أكبر مسؤولي الدولة التونسية، إلى مناقشة مبدأ حمل الجنسية الأجنبية بصورة عامة، سيما الفرنسية منها، من مواطنين تونسيين كثيرين، وتسويق تجنس رئيس الحكومة أمرا معتادا يشترك فيه مع أي مواطن عادي، وهي عملية غير بريئة، هدفها خلط الأوراق وتبرير السلوك السياسي المدروس والمنظم بسلوك المواطن العادي التلقائي والعفوي الذي التجأ إلى جنسية الدولة التي يقيم فيها لضمان مزيد من الحقوق له، ولأفراد عائلته المقيمين معه. أما كبار مسؤولي الدولة من وزراء وسفراء وقناصل، فإن الجنسية الأجنبية تشكل حصنا وحماية وملاذا لهم من كل تتبع أمني أو قضائي، في صورة التورّط في قضايا الفساد والسرقة وهدر المال العام أو التخابر مع أطراف أجنبية أو حتى في أثناء التورّط في قضايا الحق العام. وتحفظ الذاكرة الشعبية حالات كثيرة تدخل فيها سفراء وقناصل دول أجنبية لصالح مواطنين تونسيين، يحملون جنسية أولئك السفراء، لعل أبرزهم خبير الأسلحة الأممي في ليبيا المنصف قرطاس الذي يحمل الجنسية الألمانية مع جنسيته التونسية، وقد ضغطت الدولة الألمانية على الحكومة التونسية، ما أدى إلى الإفراج عنه، بعد اعتقاله بتهمة الحصول على معلومات سرّية تتعلق بخطط الدفاع الوطنية للدولة التونسية، ونقلها إلى دولة أجنبية أو عملائها، وتصل عقوبة ذلك، حسب القوانين التونسية، إلى حكم الإعدام، كما أوردت ذلك بيانات منشورة في الصحافة.
لقد مثّلت الجنسية الأجنبية بالنسبة لبعض الساسة مدخلا وأداة للحكم في الوطن الأم، خصوصا لمّا يكون هؤلاء الساسة مجندين من أجهزة المخابرات التي تملي عليهم أجندتها في دولهم، 
وتجعل منهم أدوات تنفيذ لسياساتها وبرامجها لحماية مصالحها الكبرى الاقتصادية والأمنية. ويُعد النموذج العراقي بالنسبة للساسة مزدوجي الجنسية أبرز مثال على الوفاء والولاء للولايات المتحدة الأميركية التي قدموا على دبّاباتها إبان غزو العراق سنة 2003، وتولوا أعلى المناصب في برلمان الدولة العراقية وحكوماتها المتعاقبة ورئاسة جمهوريتها، وحفظت لهم في المقابل الحكومات الأميركية أملاكهم وأموالهم، وسهرت على حماية أبنائهم، وحالت دون متابعتهم قضائيا عند تورّطهم في جرائم سرقة أموال العراقيين، والعبث بالثروات العراقية.
كان في وسع رئيس الحكومة التونسية، يوسف الشاهد، أن ينأى بنفسه عن هذا الجدل، وهذه الشبهة، في علاقته بالدولة الفرنسية التي استُقبل فيها سنة 2016 من وزيرة ما وراء البحار (المستعمرات سابقا)، لو أنه بنى علاقة ثقة مع التونسيين، تقوم على كشف الحقائق لمواطنيه، التي من أبرزها الاعتراف بجنسيته الفرنسية، لحظة التحاقه بحكومة الحبيب الصيد الأولى سنة 2015 في خطة كاتب دولة للصيد البحري لدى وزير الفلاحة، وقبل أن يتولى رئاسة الحكومة سنة 2016. وسيبقى الجدل بشأن الجنسية الفرنسية لرئيس الحكومة، وقادة الدولة التونسية، محتدما في أوساط النخب التونسية والمنتديات الشعبية، إلى أن يسن البرلمان التونسي قانونا لحماية المواقع المتقدّمة في الدولة من أصحاب الجنسية الثانية التي تبقى ظاهرة عالمثالثية، تمنعها الدول الكبرى على مسؤوليها، وتشجّعها في الدول الصغيرة والمحميات والمستعمرات القديمة.