عن التربح بالحزن الرخيص

عن التربح بالحزن الرخيص

13 ديسمبر 2016
+ الخط -

ماذا يخيف عبدالفتاح السيسي من وزير داخليته إلى هذا الحد، الذي يرفض معه اعتبار كارثة تفجير الكنيسة المصرية خللاً أمنياً؟!


ما الذي يجعله يثرثر، مرتعشاً، بأن كل شيء مستتب، وتحت السيطرة، وأن الفاجعة إنما هي دليل نجاح، سياسي وأمني، طير عقل الإرهابيين فوجهوا هذه الضربة؟!


في حادث أقل ترويعاً من هذا، نوفمبر/ تشرين ثاني 1997 أقال حسني مبارك وزير داخليته، حسن الألفي، قبل أن يعود من الأقصر، حيث جريمة استهداف السياح، إلى القاهرة، معتبراً ما جرى تهريجاً أمنياً لا تنفع التغطية عليه.. فلماذا لا يقدر على فعلها مبارك الصغير الآن؟!


تحيلنا هذه المفارقة إلى تركيبة النظام الحاكم في مصر الآن، والذي يقترب كثيراً من كيمياء التنظيمات والتشكيلات العصابية، التي لا ينتظم علاقاتها قانون، ولا تحكمها تقاليد سياسية، أو تؤطرها مؤسسات للرقابة والمساءلة، من برلمان وصحافة ورأي عام، وإنما تدار بمنطق أمراء الحرب، كل له رجاله وأسلحته، ويعرف كيف يجرح الآخر، مدركين أنهم إن فعلوا سيسقط السقف عليهم جميعاً.


قبل جمع أشلاء ضحايا الجريمة الإرهابية في الكنيسة البطرسية بالقاهرة، كان نظام عبدالفتاح السيسي يكثف جهده كله في الاستثمار الأمثل لها، وصولاً لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة.


منذ اللحظة الأولى كانت السلطة قد حددت أهدافها من الحادث، على طريقة تاجر الموت، الذي يظهر بعض الحزن الاصطناعي، والدموع المزيفة، بينما كل همه تحقيق أقصى استفادة ممكنة، لذلك كانت ردة فعل الأقباط الغاضبين، لحظة وقوع الجريمة، وأثناء تشييع الضحايا.


لم يصدق أحد أداء السيسي الحزين، أو روايته البائسة عن منفذي الجريمة، وكل ما فعله أنه ابتذل الموقف، وحوله من مناسبة للحزن الحقيقي، إلى مهرجان للسخرية و"القلش" من هذه الركاكة في السيناريو، والفجاجة في إبداء المطاليب.


وكما جرى عقب جريمة "القديسين" 2011 من الواجب، بعد انفضاض سامر الحزن، التوقف ملياً أمام مفردات المشهد ومواجهة الأسئلة الصعبة التى فرضها الحدث الجلل.. ذلك أن بعضهم وجدها فرصة سانحة للمزايدة وتصفية الحسابات وأحياناً فرض «معطيات» مستحدثة وغير حقيقية من أجل تحقيق «مطاليب» غريبة وشاذة في معظمها.


مبكراً، حدد معسكر السيسي أهدافه في: تمرير قانون مغلظ للإجراءات الجنائية، يقضي تماماً على مفهوم التقاضي وينسف فلسفة العدالة من جذورها، ويحيل مصر كلها إلى"دنشواي" تحت حكم الاحتلال العسكري.. وأيضاً إعادة تعبئة مستودعات الكراهية المجتمعية، واختيار الإخوان المسلمين هدفاً وحيداً للتصويب عليه، إعلامياً وسياسياً، وتجاوزت الهستيريا المطالبة بإعدام كل من في السجون، من انتظار كلمة القضاء النهائية، بل واتهام القضاء ذاته بالتراخي، إلى التصريح علانية من سياسي قديم بحجم مصطفى الفقي، سكرتير مبارك المطرود، بضرورة استثمار هذه الدماء، على وجه السرعة، قربان علاقة دافئة مع دونالد ترامب، الكاره للإخوان والإسلام السياسي.


الإمعان في استدعاء فتنة طائفية، واجتماعية، يتضح من هذه التفرقة في أسعار الدم المصري، بالإعلان عن مائة ألف جنيه تعويضاً عن كل ضحية من ضحايا تفجير الكنيسة، الأمر الذي يرمي نظام السيسي من ورائه إلى إنعاش محصول الاحتقان، من خلال المقارنة بين هذا الرقم، وبين التعويضات الهزيلة التي تقررها السلطة لضحايا حوادث مماثلة، مع الأخذ في الاعتبار أن أموال الدنيا كلها لا تكفي لمسح حزن المصريين على ذويهم.


كأنهم يستعجلون احتراباً طائفياً، وينادون عليه، يحضر حثيثاً، وبالتزامن مع ذلك كانت ماكينات السيسي قد اشتغلت منذ البداية على توجيه الغضب إلى معبر رفح، وحماس والفلسطينيين، وهي التوليفة الأكثر تعبيراً عن روح 30 يونيو/ حزيران 2013 التي تأسست على انتخاب الإخوان، وحماس، عدواً استراتيجياً ووحيداً للمؤسسة المصرية، عوضاً عن إسرائيل، التي لم تكن غائبة أبداً عن المشهد، دعماً واحتضاناً ورعاية حتى هذه اللحظة.


 كان حزناً رخيصاً، مصنوعاً برداءة، لم يصدقه أحد، حتى المكلومون من الفاجعة.



بالتأكيد يستحق الضحايا حزناً أنبل من ذلك.

دلالات

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا