عن الأشرار الذين صوّتوا للمرزوقي؟
يمثّل سؤال: من صوّت للمرزوقي؟ مربط الفرس، وقد منعت نتائج التصويت في الانتخابات الرئاسية التونسية، الباجي قايد السبسي، من الفوز بالمنصب المنشود في جولة واحدة، فمثّلت تلك الخيبة هزيمة لم يكن ينتظرها، وانتصاراً معنويّاً مهمّا للرئيس المرزوقي الذي حقّق الشطر الأوّل من شعاره (ننتصر.. أو ننتصر)، ويمضي بحظوظ وافرة إلى الجولة الثانية، لتحقيق الشطر الثاني. فليس ذلك الأمر صعباً، أو مستحيلاً، حسابيّاً على الأقلّ، باعتبار الفارق الضئيل الذي يفصله عن خصمه.
ولكنّ الانتصار المأمول لأحد المترشّحين يتوقّف، أيضاً، على مستوى النضج السياسيّ الذي سيظهر في حملتيهما. وتدلّ المؤشّرات الأولى على اضطراب واضح في حملة قايد السبسي، من خلال التشنّج الذي طبع بعض التصريحات، وفي مقدمها الإجابة عن سؤالنا الذي يُعَنْون هذه المقالة، فقد اعتبر السبسي أن "الذين صوّتوا للمرزوقي هم الإسلاميّون والسلفيّون الجهاديّون وروابط حماية الثورة التي تستعمل العنف".
وعلى الرغم من خطورة ذلك التصريح لإذاعة فرنسيّة، نظراً للرسائل المغلوطة التي وجّهت للخارج، فاعتبرت أكثر من مليون ناخب (صوّتوا للمرزوقي) متطرّفين جهاديين، أصرّت حملة قايد السبسي في شخص مديرها، محسن مرزوق، على القراءة نفسها التي تتهم من لم يصوّت لهم بالتشدّد والإرهاب، فقال: "الكتلة التي تحيط بالمرزوقي تتكوّن من روابط حماية الثورة، والشيوخ التكفيريّين الذين حثّوا شبابنا على الجهاد في سورية، والراديكاليّين في حركة النهضة، وتلك الكتلة تمثّل التوجّه العنيف السيّء الشنيع الذي عذّب التونسيّين طوال السنوات الماضية".
وقد استثمر عدنان منصر ذلك التشنّج الذي قسّم الناخبين إلى أخيار وأشرار، فأبدى نقيضه، متوجّها بالشكر إلى جميع التونسيين الذين صوّتوا للمرزوقي ولقايد السبسي ولبقيّة المترشّحين، رافضاً كلّ أشكال الفرز الذي يناقض مبدأ الحريّة، على مستوى الانتماء الفكريّ المعلن، أو الاختيار السريّ في الانتخابات، وعبّر منصر عن صدمته أمام التهم الخطيرة التي حوّلت نصف الناخبين إلى جهاديّين تكفيريين، أو متطرّفين دعاة عنف، وكلّها توصيفات تجانب الواقع والمنطق السليم، لأنّ أصحابها لا يؤمنون بالديمقراطيّة، ويحرّمون الانتخابات، ويكفّرون من يذهب إليها.
وفي ذلك الاستثمار، تمّ إبرازُ الخطيئة التي ارتكبها الحزب الفائز في الانتخابات التشريعيّة، بسبب استعجاله الحصول على جميع السلطات، فدخل، بدوره، في دائرة الاتهام التي رمى بها خصومه، وأعطى الدليل على نزعة متأصّلة لدى أكثر قياداته، بتقسيم التونسيّين إلى خندقين متحاربيْن، كما كان يُرَوّج في عهد المخلوع الذي لم يشاركه أحد في الحكم. ودرءاً لهذا التوجّه البغيض الذي قد يؤدّي إلى صراعاتٍ لا تحمد عقباها، ينبغي تذكير جميع القوى السياسيّة، وفي مقدمها الحزب الفائز، ومن سيدور في فلكه من الأحزاب "خوفاً وطمعاً"، بأنّ الانتخابات تمثّل أرقى الوسائل للتداول السلميّ على الحكم، وأنّ المنخرطين في ذلك الاختبار الديمقراطيّ، بوعيٍ ومسؤوليّةٍ، يمثّلون النخبة النيّرة التي لا نجاح للاقتراع إلاّ بها. وعليه، فهم جديرون بأعلى درجات الاحترام والعرفان بالجميل.
العامل الثاني الذي استثمرته حملة المرزوقي يتمثّل في رسالة التكليف التي وجّهها الرئيس إلى الحزب الفائز، ليعيّن الشخصيّة التي ستشكّل الحكومة الجديدة، فقد أربك ذلك الإجراء القانونيّ حزبَ نداء تونس، فسارع إلى رفضه، متعلّلا بمشاورات الحوار الوطنيّ، المؤسّسة التي لا تملك صلاحيّات دستوريّة، ولا يحقّ لها خرق دستور كُتب على امتداد ثلاث سنوات، وخضع لجميع التوافقات الممكنة، وهنّأنا عليه العالم. ولذلك، أصرّ الرئيس على موقفه السليم قانونيّاً، ليضع منافسه في موقف حرِجٍ، يشكّك بجدّيّةٍ في مدى احترامه القوانين المنظّمة للسلطات، ويجعل منه حزباً حاكماً إنجازُه الأوّلُ، قبل أن يحكم، خرقُ الدستور وتجاوزُ التشريعات في سبيل تحقيق المكاسب، واستثمار المقايضات مع الأحزاب والقوى التي لها ثقلٌ في المجلس النيابيّ، فلم يعد خافياً على أحدٍ أنّ تشكيل الحكومة المقبلة مؤجّلٌ، إلى حين إتمام بعض الصفقات، لأنّه لا يستثني مشاركةً محتملةً من تلك القوى، على أساس ما ستمنحه لقايد السبسي من دعمٍ في الانتخابات الرئاسية، بدل أن تكون تلك المشاركة على أساس البرامج والرؤى، كما يُروّج لذلك.
العامل الثالث يتعلّق بالمناظرة التي دعا إليها الرئيس المرزوقي، ليحقّق بها هدفين اثنين، ويضرب عصفورين بحجر واحد، لأنّه سيواجه، في الحقيقة، خصمين لدودين، قايد السبسي والإعلام الذي لم ينصفه طوال السنوات الماضية، فتجاهلَهُ وازدرى أنشطته، وهاجمَه بقائمةٍ طويلةٍ من الاتهامات، على ألسنة الخصوم الذين "يتناولون العشاء على مائدته مساءً، ثمّ يشتمونه في اليوم التالي"، كما قال المرزوقي ساخراً من معارضيه بعد أن فتح لهم أبواب القصر للحوار في كلّ ما يهمّ مصلحة البلاد. وفي مقابل ذلك التشويه، بذل الإعلاميّون كلّ ما في وسعهم لخدمة قايد السبسي، وترويجه بديلاً لا تجوز منافسته لرئاسة البلاد، فبيّضوا صورته، وتغافلوا عن ماضيه الذي لا يخلو من "جرائم" متفاوتة الخطورة والنتائج. إذْ فيها ما يتعلّق بالتزوير والتعذيب، والمساهمة في تكريس الاستبداد، وتعطيل كلّ إصلاحٍ يؤدّي إلى إرساء الديمقراطيّة، والقبول بالتعدّديّة والتنوّع. والقائمة طويلة قد تساعد المناظرةُ على كشفها وإحراج المتّهم بها، والحرج، على أيّة حالٍ، تحقّق بتلك الدعوة، فرفضها قايد السبسي، في البداية، مشبّها تلك المناظرات "بتناطح الخرفان"، ثمّ قبلها مدير حملته مشترطاً اعتذار الرئيس
عن الزلاّت التي ظهرت في خطابه، وأولها اتهامه خصومه بالطاغوت. ولأنّ ذلك فُهِم على أنّه نوع من الهروب، طمأن قياديّ آخر من "نداء تونس" الإعلاميّين والجمهور الذين راقت لهم تلك الفكرة بأنّ المناظرة ستجري، ولكن بترتيباتٍ، ينبغي إعدادها جيّداً.
وعلى العموم، أدرك المراقبون والناخبون، في وقت مبكّر، حجم التذبذب الذي ظهر في التصريحات المتناقضة لقيادات "نداء تونس". وكلّها عوامل شديدة التأثير على أصوات الناخبين. والأيّام المقبلة كفيلة بظهور عوامل أخرى، وأسئلة جديدة، لعلّ منها: من سيصوّت للمرزوقي؟ ومن سيصوّت لقايد السبسي؟ والجواب في جميع الأحوال: مواطنون تونسيّون أحرار، لهم من الوعي والذكاء ما يؤهّلهم لشرف الاختيار، وتلك هي الديمقراطيّة التي لا يفهم حقيقتها إلاّ الديمقراطيّون الصادقون الذين لا يسلمون، في أحيان كثيرة، من المنّ، أو الأذى.