عن استقالات في الجيش التركي

عن استقالات في الجيش التركي

11 سبتمبر 2019
+ الخط -
شهدت الساحة السياسية التركية، أخيرا، حدثا استثنائيا، استقالة خمسة ضباط كبار ممن احتلوا مواقع مهمة في الجيش التركي: الجنرالات أرجان شورباجي ورجب أوزدمير وأرطغرول صاغلام وبولند أجارباي وعمر فاروق بوزدمير. وجاء تقديم الاستقالات عقب إجراء تغييرات دورية في 21 أغسطس/ آب بموجب قرارات مجلس الشورى العسكري الأعلى الذي اجتمع الشهر الماضي (أغسطس/ آب) لمناقشة الترقيات والإحالات إلى التقاعد في الجيش التركي. وتعطي القرارات فكرة عن أسباب استقالات الجنرالات الخمسة، حيث انتقد خبراء عسكريون في وسائل الإعلام التركية هذه القرارات، وخصوصا فصل ضباط كبار لعبوا أدوارًا حاسمة في مقاومة محاولة انقلاب 15 يوليو/ تموز 2016، وأعرب بعض هؤلاء الخبراء، حتى ممن لديهم علاقات جيدة مع الحكومة، عن قلقهم بسبب القرارات التي من شأنها، بحسبهم، إضعاف الجيش التركي، والإضرار بدوره في التصدي للانقلابيين من جماعة فتح الله غولن. وبالتوازي، سرّبت صحف تركية أن هؤلاء الضباط خدموا في مناطق القتال في سورية، وحققوا إنجازات مشهودة في مواجهة التنظيمات الإرهابية من "داعش" وحزب العمال الكردستاني. وإن هذه الاستقالات ربما تكون بمثابة احتجاج على قرارات مجلس الشورى العسكري، بسبب فصل ضباط ممن كان لهم دور مهم في حفظ الأمن والاستقرار في البلاد. 
ووفقا لمعلوماتٍ مسرّبة، ربما كان الضباط المستقيلون باستقالاتهم يحتجّون على إقالة مجلس الشورى العسكري ضباطا أكفاء من وجهة نظرهم، وباعتبار أن التعيينات والإقالات تضعف دور هؤلاء الجنرالات وشأنهم، كما أن هذه الإقالات لم تتبع معايير صحيحة، بما يتعلق بالكفاءة والجدارة. وقد يسبب الإتيان بضباط غير مؤهلين لم يلعبوا دورا في مكافحة الإرهاب إلى مواقع عليا مشكلات عميقة مستقبلا، بسبب عدم جدارتهم لهذه الوظائف، في حين أن ضباطا مقاتلين في الأراضي السورية، وتولوا وظائف مهمة، وقدّموا خدمات كبيرة، وقاموا بتضحيات، تمت إحالتهم إلى التقاعد. وباعتبار أن الجنرالات المستقيلين كانوا يؤدون مهامهم على الجبهة السورية، وفي مواقع خطرة، وأن توقيت الاستقالات يتزامن مع التفاهمات المعقودة بين الولايات المتحدة وتركيا بشأن المنطقة الآمنة، وتعرّض نقطة المراقبة التابعة للجيش التركي للقصف والحصار في مدينة إدلب، فلربما تكون هذه الاستقالات الإشكالية سببا في التأثير على المعنويات القتالية للجيش في هذه المنطقة الساخنة.
ما الذي تغير في الجيش التركي بعد محاولة الانقلاب في 15 يوليو/ تموز 2016؟ تم طرد ما لا يقل عن 17 ألفاً و380 شخصاً من القوات المسلحة التركية إجمالا، 15 ألفاً و242
 منهم خلال حالة الطوارئ، وألفان و138 منهم بعد حالة الطوارئ التي فرضتها الدولة بعد محاولة الانقلاب. وما لا يقل عن 150 من الضباط من ذوي المراتب العليا جنرالات، وهذه نسبة تعادل أكثر من 40 % من الجنرالات في الجيش. ويدل هذا الأمر على أن المستوى الأعلى من القيادة خضع لتحولات كبيرة. ويمكن تفسير ذلك بأنه محاولة لتقليل دور الجيش وتدخلاته في السياسة في فترة ما بعد "15 يوليو"، بعد أن كان يعتبر قوة مهمة في إدارة البلاد حتى وقت قريب. وإلى ذلك، صارت قيادة الأركان للجيش التركي تابعة لوزارة الدفاع، بعد الانتقال إلى النظام الرئاسي.. وفي إطار الإصلاحات في الجيش، حدث تغيير آخر في مجال المدارس العسكرية، تم إغلاق الأكاديميات العسكرية، وفتحت جامعات مدنية تابعة لوزارة الدفاع بدلاً منها. ومن شأن إغلاق هذه الأكاديميات في الجيش التركي أن يمهد الطريق للشباب ذوي الأصول غير العسكرية للصعود إلى المراتب الأعلى. ويعتبر محللون عسكريون أن اعتماد نظام التعاقد داخل الجيش التركي سيؤدي إلى تغييرات جذرية في هيكلة الجيش، لجهة قلة كفاءته الاحترافية. وقد وجّه بعضهم انتقادات لهذه التغييرات في نظام تجنيد الضباط وهيكلة الجيش، خصوصا بعد محاولة الانقلاب. وعلى الرغم من أنها ساهمت في تحقيق الديمقراطية، والانتقال إلى الإدارة المدنية في البلاد، ولعبت دورًا إيجابيًا، إلا أن الهيكل المؤسسي للقوات المسلحة ضعف في الوقت نفسه، الأمر أثر سلبًا على استقلال الجيش عن السياسة، ما تسبب في مشكلات خطيرة على مستوى جودة الجنود في زيادة الاحترافية للضباط بشكل عام. ويُعتقد أن التعيينات الحديثة وقرارات العمر والتدخل الحكومي في الهيكل الهرمي للجيش تسبب مشكلات فنية ومهنية. ويبدو أن بعض الضباط في الجيش يشاركون على الأقل هذه القناعات، ويوافقون على أن قضية الجدارة واللياقة لا تؤخذ في الاعتبار وفي الترقيات.
تكمن خلف هذه الإقالات مخاوف وقلق من الحكومة التركية من مغبة استيلاء الكماليين والقوميين من الضباط رفيعي المستوى على المواقع المهمة في الجيش، واحتمال حدوث محاولة انقلاب جديدة ضدها. وعلى هذا الأساس، يهدف حزب العدالة والتنمية (الحاكم) إلى ألا يسيطر أي تيار سياسي على المواقع العليا التي تلعب دورا مصيريا في الجيش. ومن ناحية أخرى، تلمح هذه التصرفات إلى الرئيس أردوغان، وإلى أنه على الرغم من إقالة مئات الضباط رفيعي المستوى، وعلى الرغم من اعتقال آلاف من الموظفين في الجيش، فإن خطر التدخل العسكري ما زال قائما، ولم تتمكن الدولة من إزالة المخاطر والتهديدات. ولم يقم الحزب الحاكم بإقالة بعض الضباط الأتاتوركيين عن وظائفهم، ربما من أجل إحداث نوع من التوازن داخل الجيش التركي من انتماءات مختلفة.
القضية الأخرى مرتبطة بالصراع الأيديولوجي داخل الجيش التركي بعد محاولة انقلاب "15 تموز" وقبلها. هناك تيار في الجيش يدافع عن فكرة التحالف مع روسيا، وزيادة التنسيق
 والتعاون معها، ويروّج فكرة آوراسيا التي تم طرح أسسها الفلسفية السياسية في بداية القرن العشرين، وصوّرها منظرو هذه العقيدة الجيوسياسية أبنها تخالف فكرة عالمية الحضارة الغربية، أو شموليتها، وتدافع عن تعدّد الحضارات والسياسات. وتركز الفكرة الأوراسية على وحدة مصير الشعوب السلافية والتركية التي تعتبر قاعدة تأسيس الإمبراطوريات الكبرى في قارة آسيا وأوروبا تاريخيا، حسب نظرية المفكر الروسي ألكسندر دوغين. وتم ترويج الفكرة في الطبقات السياسية، بعد أن بات يمكن وصف العلاقات التركية الروسية بأنها ممتازة، بفضل التطورات أخيرا في المنطقة، وفي الأزمة السورية، وما تبعها من تفاهمات وتنسيق. ولذلك، بات أنصار هذا التيار يسيطرون على مفاصل الدولة والجيش بشكل متزامن، على الرغم من قلق الطبقة المسيطرة من التيار الإسلامي في الحكومة والحزب الحاكم.
على الرغم من أن الرئيس أردوغان هو الداعم لفكرة أوراسيا حاليا، سواء في المجال العسكري أو في المجال السياسي - المدني، يبدو أن حزب العدالة والتنمية لا يمكن أن ينسى تدخل "انقلاب ما بعد الحداثة" في 28 فبراير/ شباط 1997، والذي أطاح حكومة الائتلاف بزعامة نجم الدين أربكان، وكذلك أزمة رئاسة الجمهورية التي حاول هؤلاء بمن فيهم من أنصار هذا التيار عام 2007 التدخل لعدم انتخاب رئيس من حزب العدالة والتنمية. ويمكن استخلاص موقف الحكومة أن جميع الاستراتيجيات والرؤى المتعلقة بمستقبل تركيا سوف يرسمها بالكامل المدنيون، وأن هذه العملية لا يمكن أن تدخلها قطاعات أخرى، وخصوصا الجنرالات. ولذلك، يمكن القول إن حربًا باردة بين الحكومة وبعض الجنرالات مرتقبة في المستقبل.