عن أزمة السيولة الخانقة في الجزائر

عن أزمة السيولة الخانقة في الجزائر

08 سبتمبر 2020
الاقتصاد الجزائري يئن تحت أزمة السيولة النقدية (فرانس برس)
+ الخط -

أصبحت أزمة السيولة الخانقة في الجزائر واقعًا مريرًا يعيشه أغلب المواطنين كل يوم لعدّة ساعات في الطوابير الطويلة تحت التهديد الكوروني أمام البنوك ولا سيَّما على مستوى مراكز البريد. في بادئ الأمر اعتقد المواطنون أنّ مشكلة السيولة ما هي إلّا مجرَّد سحابة صيف عابرة، ولكن اتَّضح مع مرور الوقت أنّها مشكلة مستعصية تُرسِّخ الاختناق المالي الذي تتخبَّط فيه الجزائر منذ أن لاحت أزمة كورونا وانهيار أسعار النفط المزدوجة في الأفق.
ويمكن تشبيه أزمة السيولة الأشدّ من نوعها بجبل الجليد حيث يعكس الجزء البارز منه الأسباب الظاهرة، كتجميد النشاطات الاقتصادية خلال فترة الحجر الصحي، وهذا ما عسَّر على عدد كبير من المودعين ضخّ أموالهم، وكذا تضاعف نسبة سحب الأموال وعجز بنك الجزائر المركزي عن توفير السيولة النقدية اللازمة والمطلوبة رغم كل عمليات طبع النقود المكثَّفة التي تمَّت سابقًا، بينما ينمّ الجزء المخفي من ذلك الجبل عن وجود جذور عميقة لهذه الأزمة، كالاختلالات المزمنة في السياسة النقدية وتخلُّف المنظومة البنكية عن اتباع الخدمات الإلكترونية واضمحلال الثقة بين المواطن والمنظومة المصرفية وردود الفعل الحكومية، لا سيَّما خلال الأزمات، التي تنفر المودعين من ادّخار أموالهم في القنوات الرسمية وتحثُّهم على اكتنازها تحت أنظارهم في منازلهم.
لقد كانت أزمة السيولة الخانقة جدّ متوقَّعة في ظلّ وقوع الاقتصاد الجزائري بين فكَّي كورونا والسقوط الحرّ لأسعار النفط، وهذا ما أدَّى إلى تراجع عائدات النفط بنسبة 26 بالمائة في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، وانكماش قطاع النقل والاتصالات بنسبة 4.8 بالمائة في 2020، وانخفاض نمو قطاع الخدمات بنسبة 2.8 بالمائة خلال الربع الأول من العام الحالي، وتسجيل قطاع الصناعة لانخفاض قدره 0.5 بالمائة خلال الفترة ذاتها، وارتفاع عجز الميزان التجاري بنسبة 79 بالمائة، وانزلاق احتياطي العملات الأجنبية (المخصَّص لتمويل العجز في ميزان المدفوعات وتحديدًا الاستيراد وليس لتوفير السيولة النقدية)، إلى 60 مليار دولار في مارس/ آذار 2020، والصعود المدوِّي للعجز في الميزانية من 1500 مليار دينار، أي ما يعادل 11.71 مليار دولار، في قانون المالية لسنة 2020 إلى 2000 مليار دينار، أي ما يعادل 15.62 مليار دولار في قانون المالية التكميلي لهذا العام، فليست السيولة النقدية وحدها التي شحَّت، بل الاقتصاد الجزائري ككل انكمش بنسبة 3.9 بالمائة في الربع الأول من 2020 بعدما حقَّق نموًا يُقدَّر بـ1.3 بالمائة في الفترة نفسها من العام الماضي.

عندما يتم ذكر شحّ السيولة النقدية تتبادر إلى الأذهان فورًا تلك الأموال الطائلة التي يكتنزها أباطرة وبارونات الاقتصاد الموازي الأسود في القنوات غير الرسمية والتي يتمّ وزنها بدلًا من عدِّها نظرًا لضخامة حجمها الذي تتضارب أرقام المسؤولين حوله والذي يُقدَّر، بحسب أحدث التصريحات، بنحو 5000 مليار دينار، أي ما يعادل 39 مليار دولار.
ولو أنّ الرقم الحقيقي يفوق ذلك بكثير، نظرًا للإفراط في طباعة النقود تحت غطاء التمويل غير التقليدي، حيث يتمثَّل جزء من فكّ عقدة نقص السيولة في استقطاب الأموال النائمة في أركان وخبايا السوق الموازية التي يُمثِّل حجمها 50 بالمائة من حجم الاقتصاد الجزائري في الوقت الذي لا يتخطى فيه حجم تلك السوق 15 بالمائة في الاقتصادات المتقدمة.
ويستحيل أن لا يمرّ الحديث عن الأموال المنهوبة على ألسنة المنتظرين على وقع الاكتظاظ والطوابير الطويلة، حيث يتحسَّر المواطن العادي لرؤية رصيده في صورة أرقام دون القدرة على المساس به في شكل أوراق نقدية، في الوقت الذي يكتنز فيه أفراد عصابة النظام السابق وفلوله المتورِّطين في قضايا فساد ثقيلة أموالًا يمكن سحبها نقدًا في أيّ وقت وتتجاوز قيمتها 200 مليار دولار في البنوك الأجنبية خارج الجزائر والتي عجز النظام الحالي لحدّ الساعة عن استردادها نظرًا لصعوبة واستحالة هذه العملية التي تتطلَّب خبرة كبيرة وتعاونًا دوليًا جدِّيًا ووقتًا طويلًا قد يفوق 20 سنة، لا سيَّما في ظلّ اللَّامبالاة والتثاؤب الذي باتت الملاذات الآمنة تقابل بهما الدول التي نُهِبت ثرواتها، وهذا ليس غريبًا على تلك الملاذات التي نفضت عنها غبار المعايير الأخلاقية وأضفت الشرعية على اقتصاد الظلام وأثبتت إخلاصها ووفاءها للناهبين من كلّ أنحاء العالم.
وتذرُّعًا بأزمة السيولة النقدية، انهالت الحكومة السابقة على ماكينات طباعة النقود باستخدام تبرير التمويل غير التقليدي وطبعت ما مقداره 60 مليار دولار خلال سنة واحدة فقط، إضافة إلى المبلغ المالي الذي تمَّ الاتِّفاق على طباعته والمتمثل في 11 مليار دولار سنويًا ولمدّة 5 سنوات.

وإذا استمرَّت عملية الطباعة بالوتيرة نفسها ستطبع تلك الماكينات ما يصل إلى 300 مليار دولار خلال 5 سنوات فقط، ورغم كل الأموال الهائلة التي تمَّت طباعتها، لم تعرف أزمة السيولة النقدية طريقها للحلّ في الجزائر، لأنّ توقيت الطباعة كان متزامنًا مع الفترة التي شهدت صراعًا داروينيًا، حيث البقاء للأقوى والأكثر فسادًا، والتي أصيبت خلالها الحسابات البنكية للفاسدين بتخمة لم يسبق لها مثيل.
خلاصة القول إنّ الخروج من أزمة السيولة النقدية الخانقة وعنق الزجاجة يتطلَّب الالتزام بتطبيق حلول معينة وبصفة تدريجية بدلًا من القفز مباشرة لتغيير العملة، حيث يجب أوّلًا تشجيع التعامل بوسائل الدفع الإلكتروني، وتوعية المواطنين بذلك، وجبر ثقة المواطن المكسورة في المنظومة المصرفية الجزائرية، والقضاء على سوق الصرف الموازية من خلال تفعيل مكاتب الصرف بشكل قانوني، وإصدار صكوك وسندات إسلامية نظرًا لفعاليتها في امتصاص الأموال الجارية في دواليب السوق الموازية، وبعد القيام بكل تلك الإجراءات يمكن اللجوء حينئذ لتغيير العملة من أجل استقطاب الأموال المتبقية خارج القطاع الرسمي، أما الوثب الاستعراضي المباشر نحو تغيير العملة دون تطبيق الإجراءات السابقة فلن يكون إلا عبئًا ماليًا إضافيًا في زمن التقشُّف ولن يجدي نفعًا لحلّ مشكلة شحّ السيولة النقدية، لأنّ الأوراق النقدية الجديدة ستتَّخذ سبيلها المعتاد نحو اقتصاد الظلّ وخزائن المنازل.

المساهمون