... عن "نظريّة المؤامرة"
اغتيال كينيدي ... ملابسات قائمة بشأن "مؤامرة".
في الحديث عن "نظرية المؤامرة"، ينبغي أن يتجنّب المرء السقوط في مبالغتين "حديَّتين"، الأولى تعليق كل معضلةٍ، أو أزمةٍ، عليها، والثانية إنكار وجودها من حيث الأصل، وتسخيف مَن يطرح بعض سيناريوهاتها في سياقات معينة.
في سياق تطرف الحد الأول، تجد هناك مَن ينسب كل كارثة إلى "نظرية مؤامرة"، لها أطراف خارجية وداخلية، وأصحاب هذه العقلية يتعاملون مع "نظرية المؤامرة" على أنها قدر محتوم، لا يمكن تفاديه. وبهذا، يغدو الحديث عن مسارٍ موضوعي للأحداث، أو سياق تاريخي لها، أو حتى عن أخطاء يرتكبها المرء نفسه، أو الكيان "المستهدف" ذاته، قضايا هامشية، لا تستحق النظر والتأمل والأخذ بعين الاعتبار. فالمشكلة، حسب منطوق التفكير هذا، في "المؤامرة" لا في غيرها، وبأننا ما كَّنا لنصل إلى ما وصلنا إليه لولاها.
هذا النسق التفكيري قائم منذ القدم، وهو ليس حكراً على العقل العربي، كما يظن بعضهم، فحتى في العالم الغربي، "المسيحي"، مثلاً، نجد مَن يؤمن بكثير من "نظريات المؤامرة". فثمة "نظرية مؤامرة" عمرها اليوم قرون طويلة، يؤمن بمقتضاها أصحابها أن المسيح، عليه السلام، تزوج بمريم المجدلانية وبأن له نسلاً منها، لكن الكنيسة تتعمّد، منذ القدم، طمس "الحقائق" وملاحقة مَن يحاول كشفها.
هذا ليس أنموذجاً معزولاً في الغرب، فثمة "نظريات مؤامرة" مثارة بشأن ملابسات اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق، جون أف. كيندي، عام 1963، وملابسات اغتيال الأميرة البريطانية، ديانا، عام 1997. الأمر نفسه تجده مطروحاً بشأن هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، وحقيقة مرض الإيدز، وما إذا كانت الحكومة الأميركية وراء "صناعته" وحقن السود به، والمزاعم المثارة حول موضوعة هبوط الأميركيين على القمر عام 1969 في سياق تنافسهم الفضائي مع الاتحاد السوفييتي الذي فاجأ الأميركيين بإيصاله أول مركبة فضائية، غير مأهولة، إلى القمر عام 1959.. إلخ.
أيضاً، في المجالين العربي والإسلامي، لا تعدم مثل هذه "النظريات التآمراتية" في سياق تفسير الأحداث والمحطات المفصلية في تاريخنا وواقعنا. فالفتنة الكبرى بين الصحابة، رضوان الله عليهم، سببها "المؤامرة السبأية"، لليهودي اليمني، عبد الله بن سبأ. كذلك، السلطنة العثمانية لم تكن لتسقط لولا مؤامرات "يهود الدونمة"، وتسلّلهم إلى جسد الدولة العثمانية ومفاصلها. أيضاً، الإخوان المسلمون مؤامرة بريطانية، وكذلك الرئيس الأسبق، جمال عبد الناصر، صناعة بريطانية ـ أميركية.. وكذلك "القاعدة" و"داعش"، بل و"الربيع العربي" أيضاً.. إلخ.
لست، هنا، في صدد مناقشة إن كان لهذه المزاعم، أو بعضها، أصل مشروع أم لا، فهذا موضوع آخر، لكن النقطة الرئيسة، هنا، وأود التأكيد عليها، تتمثل في كيفية اختلاق العقل "التآمري" مشجباً يعلّق عليه كوارثه ومصائبه وعجزه وفشله، وتحيّزاته الإيديولوجية كذلك. إنه عقل يسعى إلى تبرئة ذاته من أي تقصير، بل وحتى لإنكار الأخطاء أو العوامل
الموضوعية التي قد تكون قادت إلى فشل تجربة ما أسبغت عليها هالة من القداسة مزعومة. إنه عقلٌ لا يرى في نفسه فاعلاً، ولا حتى مقاوماً "للمؤامرة"، بل هو عقل قدري استسلامي سلبي، يظن أن "موضوع المؤامرة" كائن جماد، يخضع لقوانين الفيزياء والكيمياء، لا لقوانين البشرية والإنسانية الديناميكية والحية التي لا يمكن التنبؤ بردود أفعالها.
على الطرف النقيض الحديّ الآخر، تجد عقلاً يتعامل مع موضوعة "نظرية المؤامرة" على أنها "كليشيه" سخيف، وبأنها لا تزيد على أن تكون "خرافة" لا أصل لها. وفي الحقيقة، كلا الطرفين الحدّيَّين يتعامل بمنطق "الكليشيهات" من دون منطق.
فمحاولة إنكار أن الطبيعة البشرية مجبولة في بعض تضاريسها على التنافس والحسد والشر.. إلخ، وبأن ذلك يقود إلى تعارض في المصالح والمشاريع واصطدامها، فيه من اللاواقعية واللامنطقية الكثير الكثير. وبهذا، يغدو التخطيط والمكر والتآمر أدوات منطقية وواقعية، بل وحتى طبيعية وجبلِّية. إنها الحقيقة منذ بدء الخليقة. إنه مسار التاريخ، في إطاره العام، كما تتفق عليه الأديان الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، في تقديمها جوانب من "صراع الخير والشر"، وموضوعة "المؤامرة" أو "المكر" حاضرة فيه بقوة. بل إنه كذلك مسار الحاضر، بحيثياته المتشعبة وتفاصيله المعقدة وأمثلته الكثيرة التي لا يمكن حصرها.
وحتى لا نتشعب في التفاصيل، هنا أمثلة ثلاثة قريبة وذات صلة بواقعنا اليوم. فمثلاً، نعلم، اليوم، بالمعلومات والمعطيات، لا التحليل فحسب، أن العدوان الأميركي على العراق واحتلاله عام 2003 تمّ بناء على "أدلة" مفبركة، أشرفت على صناعتها إدارة الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش الابن. بل إنه، حسب وزير المالية في إدارة بوش الأولى، بول أونيل (2001 ـ 2003)، فإنه تمت مناقشة "خطط طارئة" لمهاجمة العراق منذ الاجتماع الأول لمجلس الأمن القومي الأميركي بعد خطاب التنصيب للرئيس في يناير/ كانون الثاني 2001، أي قبل هجمات سبتمبر/ أيلول 2001.
ونعلم اليوم، وبناءً على ما نُشر من تحقيقات صحافية أميركية، وشهادات لمَن كانوا في مواقع صنع القرار الأميركي، أو حتى ممّن لا يزالوا فيه، أن الانقلاب الذي جرى على الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، تمَّ بناءً على سيناريو محكم، جرى الإعداد له في مصر وخارجها، شهوراً طويلة، ومنذ اليوم الأول لنجاح الرجل في الانتخابات.
كما أننا نعلم، ثالثاً، حقيقة المحور الذي يقف وراء "صناعة" الفوضى في بعض دول الثورات العربية "وهندستها"، وهو محور إقليمي ـ دولي، بامتدادات داخلية في كل دولة مستهدفة. ومرة أخرى، الحديث هنا عن معلومات، لا عن تحليل.
وتضاف الأمثلة الثلاثة السابقة إلى سلسلة طويلة من "المؤامرات" التي كشفت عنها الوثائق الغربية، من اغتيالات وترتيب انقلابات واختلاق أسباب تبرّر اجتياحات عسكرية واحتلالات في أرجاء المعمورة كلها.. إلخ. إنه ليس عالم الاستخبارات فحسب، بل إنها طبيعة المصالح المتعارضة، وقبل ذلك بعض جبلة الإنسان وغريزته.
باختصار، إنكار "نظرية المؤامرة" لا يقل خطورة عن المبالغة في اعتمادها في تفسير كل حدث محلي وإقليمي وكوني. بل إن تسفيه "نظرية المؤامرة" هو مؤامرة بحد ذاتها. غير أن "التآمر" لا ينساح في فراغ، فكما أنه يوظّف عناصر ذاتية وموضوعية، لتعزيز فرص نجاحه، فإنه ليس علماً بالمعنى التقني للكلمة. فموضوع "المؤامرة"، كما سبقت الإشارة، هو الإنسان ذاته، والإنسان كائن حي عاقل ومعقّد لا تخضع حركيته وردود أفعاله لقوانين صارمة، فيزيائية ورياضية. وبمجرد أن يختار الإنسان المقاومة، فإن "المؤامرة" تصبح صراع إرادات، أكثر من أنها صراع إمكانيات. و"المؤامرة" بذاتها لا يمكن لها أن تنجح إن لم يكن ثمة معطيات موضوعية، وهشاشة بنيوية، مجتمعية وسياسية واقتصادية وفكرية وقدراتية واستراتيجية.. إلخ، في دولة ما أو تيار ما.
أبعد من ذلك، "المؤامرة" ليست، بالضرورة، السبب دائماً، بل ثمة اعتبارات ذاتية، نسعى، في أحيان كثيرة، إلى إنكارها، لكنها، في واقع الأمر، السبب الرئيس لأزماتنا، لكن الاعتراف بالتقصير والخطأ والفشل من الأمور التي يصعب على الإنسان تقبّله، وهذه هي "المؤامرة الذاتية" الأخطر والأكبر.