عنف الشارع في تونس والحاجة إلى الأمن الاجتماعي

عنف الشارع في تونس والحاجة إلى الأمن الاجتماعي

08 مارس 2020
+ الخط -
تفيد البيانات التي تُصدرها وزارة الداخلية التونسية، ومصالحها المختلفة، وجديدها ما أدلت به أمام لجان خاصة في مجلس النواب بأن الجريمة الاجتماعية (نشل، عنف، سطو، سرقة .. إلخ) تتفشّى بشكلٍ سريعٍ ومحير. النجاحات الآمنة التي حققتها البلاد في مكافحة الإرهاب ومختلف أشكال الجريمة المنظمة، ومنها الاتجار بالبشر، وتسفير المهاجرين، وبنسبة أقل الاتجار في المخدرات، وتهريب الممنوعات، قابلها فشل في محاصرة الجريمة الاجتماعية؛ ففي بيانات وتصريحات عديدة، أفادت المصادر نفسها بأنه تم مثلا سنة 2012 تسجيل 55 ألفا و700 عمليّة سرقة في مختلف أنواعها، في مقابل 49 ألف عمليّة سرقة خلال العام 2018، أما عدد عمليات السطو باستعمال القوة أو ما تعرف في تونس بـ"البراكاجات"، فإنها ظلت تتراوح في حدود 5500 براكاج في السّنة. ووحدها تمثل نسبة 40% من جملة الجرائم المسجلة سنة 2019، ونسبة 20% منها في تونس الكبرى. وبصفة عامة، ظل نسق الجريمة الاجتماعية، على الرغم من بعض التراجع من حين إلى آخر، يرتفع خلال السنتين الماضيتين تحديدا.
يذهب بعضهم في تفسير ذلك بالأولوية المطلقة التي أعطتها البلاد إلى الحرب على الإرهاب، وهي التي استنزفت معظم الموارد المالية والبشرية لوزارة الداخلية، علاوة على استمرار ظاهرة البطالة وتهميش الفئات الفقيرة، خصوصا في الأحياء الشعبية، غير أن المختصين في الدراسات الاجتماعية والإنسانية يدرون، من دون عناء كبير، أن الانعطافات الكبرى التي تمر بها المجتمعات، على غرار الثورات والكوارث الطبيعية والحروب ترافقها، في أحيانٍ كثيرة، موجات عنف معمّم، تشمل الفضاءات الخاصة والعامة.. تتحلل المعايير، وتتمزّق أنسجة المجتمع، بشكل أو بآخر، فتصاب المجتمعات بحالة اختلال وانفلات جماعي، يأتي فيها الأفراد أفعالا منحرفة، تصل إلى ذروة العنف وأعلى درجاته. تفقد الأطر الاجتماعية، على غرار الأسرة والجماعات، قدرتها على مراقبة تصرّفات الأفراد وضبطهم الاجتماعي، ويصبح الشارع مسرحا للعنف، لا يخلو أحيانا من تشفٍّ وتنكيل عبثي بالضحايا...
لم تشذ تونس عن هذه القاعدة، وعرفت منذ سقوط النظام، بداية سنة 2011، حالات عديدة من 
العنف والتدمير الذاتي (أشكال متعددة من الاعتداء على الذات والانتحار.. إلخ). يتفطّن الملاحظ، في الأشهر الأخيرة، إلى ما تثيره "جرائم الشارع" من جدل واسع، اكتسح مختلف الفضاءات. تمدّدت هذه الجرائم، لتنال من كل ما يعترضها من أفراد ومجموعات ومؤسسات: المدارس وتلاميذها، وسائل النقل العمومية والخاصة ومستعمليها، مرتادي المقاهي والمطاعم والنزل، المساجد ومؤمّيها. وشملت في ذلك الأحياء الفقيرة والراقية معا، المدن والأرياف.. إلخ، ولم تتمكّن الإجراءات المتخذة، بقطع النظر عن فاعليتها وجاهزيتها من وقف هذه الآفة إلا قليلا. يحدث هذا كله في سياق مجتمعي، أصبحت الجريمة فيه تشكل، خلال السنوات القليلة الماضية، إحدى سمات التحولات الاجتماعية المتسارعة في ما يشبه التطبيع معه.
يشعر المرء أن استفحال عنف الشارع وارتفاع منسوبه وتنوع أشكاله غدت منفلة من كل المعايير، حتى أصبحت "عبثية" لتفاهة "مسبباتها" وأغراضها ووحشية تنفيذها (التنكيل بالضحية، منع محاولات الإنقاذ والإسعاف والتوسط ..). ولا يخجل بعضهم من عرض ذلك في شبكات التواصل الاجتماعي. وأفادت تقارير تحليلية وإحصائية عديدة بأن العنف عموما يتصدّر المركز الأول في لائحة الجرائم، حتى كادت جرائم الاعتداء والسطو المسلح والنشل، علاوة على عنف حركة المرور، أن تصبح جزءا من مشهد حياتنا اليومية. وقد تتضاعف هذه الوقائع في إدراكات الناس، خصوصا في ظل تهويلٍ يصدر من هذا المنبر أو ذاك، عن قصد أو غير قصد.
تدلّ الأرقام السابقة، على نسبيتها والتباسها أحيانا، من خلال جملة المؤشرات الأخرى، على تصاعد موجات عنف الشارع، خصوصا مما جعله في ظل الأوضاع الأمنية الهشة باعثا على حالة من انتشار الخوف، وانعدام الشعور بالأمان لدى عامّة الناس. يغذّي ذلك انتشار الشائعات المخيفة، وتحولها إلى هاجس وهلع يؤرّقان المواطنين في حياتهم اليومية، ما يخفّض من نسق الحركة في المدينة: تنقلات ليلية محدودة، القلق على السلامة الجسدية لأفراد العائلة خارج المنزل، وذلك ما ينمّي حالة الخوف الجماعي التي قد تصل إلى هوس مشلّ للحركة والخيال والإرادة.
تقرع جرائم الشارع في تونس جرس الإنذار، وذلك ما دفع المركز العربي للأبحاث ودراسة 
السياسات ومؤسسة الصباح إلى استضافة جامعيين ومختصين لتدقيق حجمها، من دون مبالغة أو هلوسة وتحليل أسبابها والتفكير في الحد منها، فما يهمنا من ذلك كله، على الرغم من بعض المبالغة أحيانا، النظر معا في الظاهرة، ثم رسم سبل التصدّي والوقاية، منعا لحالة التطبيع مع العنف والحيلولة دون انتقاله إلى سمةٍ قارّةٍ في سلوكنا اليوم، فالمقاربات الأمنية المتبعة لم تكن فعالة، وهو ما يدعو إلى إضافة سبل جديدة، لا تقل أهمية عن ذلك، لعل أهمها استهداف تلك الفئات التي تعد حاضنةً للعنف الاجتماعي، ببرامج تشغيل وتربية وتدريب، ما يجعل الفضاء العام مشتركا نتقاسمه، وليس مسرحا نعتدي فيه على بعضنا بعضا.. يلعب الإعلام والتربية دورا هاما في غرس هذه القيم، حتى نتحكّم في مثل هذه الانعطافات الكبرى، ونقلص من مخاطرها.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.