عندما يُعاكس الفلسطيني الطبيعة

عندما يُعاكس الفلسطيني الطبيعة

03 يوليو 2020
+ الخط -

 

ما يزال السؤال المعضلة "ما العمل" يطارد الفلسطيني. في كل مرةٍ يخبط الفلسطيني بجدار، تنطلق قرائح المنشغلين بالهَمّ العام بحثاً عن أفكار قديمة لتجديدها، أو اجتراح أفكار جديدة قد تشقّ مخرجاً آمناً ينقذ ما تبقى من المشروع الوطني الفلسطيني. لا شك أن مهمة الإجابة عن هذا السؤال المزمن قد تعقدت، بعد أن تاهت بديهيات الكفاح المسلح إثر خروج المقاومة الفلسطينية الأول من حد المواجهة المباشرة مع الاحتلال في الأردن (1971)، ثم خسارة خط المواجهة الثاني إثر الخروج من بيروت (1982). وزادت تعقيدات الإجابة عن السؤال المزمن بعد إجهاض تجربة المقاومة الشعبية في الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، وتعثر تجربة الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وما تزال الإجابات عن سؤال "ما العمل" تكبر وتتعقد وتراوح في المربع الأول.

والآن، وقد وصلت تجربة "هجوم السلام" الفلسطيني التي بدأت مع مؤتمر مدريد (1993) إلى نهاياتها المأساوية، وارتطمت مركبة "أوسلو" بجدارٍ سميك من التعنت الصهيوني والانحياز الأميركي، والعجز الأوروبي، والتخاذل الإقليمي، والفشل الفلسطيني، ينبز سؤال ما العمل من جديد، وتتجدد معه محاولات اختراق الأفق العقيم. وجرياً على عادتها بعد كل "منعطف تاريخي"، عادت النخب الفلسطينية إلى المراوحة في مربع السيناريوهات التقليدية، من المطالبة بإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية وتجديد أطرها ومؤسساتها، إلى مطالبات بالمصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس بوصفهما الفصيلين الأكبرين في الساحة الفلسطينية، وفي خلافهما إضعاف للمجموع الفلسطيني وفي تفاهمهما قوة له. وهناك من يذهب إلى حد الدعوة إلى التغيير الشامل بعيداً عن كل الأطر القائمة، مع إغلاق مسار المفاوضات، والعودة إلى الكفاح المسلح بوصفه الطريق الوحيد للتحرير. 

ولا شك، على الأقل عند كاتب هذه السطور، في حتمية ارتطام كل المبادرات بحيطانٍ من الفشل، طالما استمر الفلسطيني بتكرار التجربة ذاتها، من دون إحداث تغييرٍ في الظروف الموضوعية، أو إيقاع طفرات في قواعد اللعب أو الاشتباك مع إسرائيل. ولن يعثر الفلسطيني على إجابات قاطعة طالما ظل في حالة إنكار تعاند سيرورة التاريخ وصيرورته، وتناكف قوانين الطبيعة. وكيف للفلسطيني العثور على إجابات مختلفة، تقوده إلى التحرّر من الاحتلال، بينما هو يستبعد خيار المقاومة أو يتهرّب منه، ومنهم من يستنكره ويدينه. ألا يتناقض هذا مع طبيعة الصراع بين المُستعمِر والمستعمَر؟ أليس في ذلك خروج فاجر عن نصوص التاريخ التي كتبتها جُلُ حركات التحرر العالمية؟

لن ينجح الفلسطيني، أي فلسطيني، في فك طلاسم سؤال "ما العمل" المزمن، طالما ظل يلف ويدور في حلقةٍ مغلقةٍ من المغالطات الغليظة والحلول العرجاء، المخالفة لمنطق التاريخ، والمعاكسة لقوانين الطبيعة. يُعلمنا التاريخ ما يكفي من تجارب صراع الشعوب مع الاستعمار، وخلاصات هذه التجارب تكاد تكون واحدةً دائماً، مهما اختلف مسار الأحداث، لا طريق إلى التحرّر إلا بالمقاومة المشروعة الواعية، والحرية تُستَحق بالنضال الشاق والمُكلف، لا بالاستجداء المُخزي. وتعلمنا الطبيعة أن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة معاكس في الاتجاه.

نموذج العلاقة الجارية بين الإسرائيلي (المستعمِر) والفلسطيني (المستعمَر) شاذّ بكل المعايير عن قوانين التاريخ والطبيعة التي عرفتها البشرية. ما لم تقع مراجعة شاملة وجذرية لهذه العلاقة، ويتم تصحيح مسارها لتستقيم مع قوانين التاريخ والطبيعة، سيختنق الفلسطيني في المربع الأول، باحثاً عن إجابات لسؤال (ما العمل). في مقال سابق هنا، تعرض الكاتب لأفكارٍ طرحها كتاب "المقاومة بالحيلة"، للكاتب الأميركي جيمس سكوت، وبين فيها صوراً للمقاومة بالتورية في حال تعذّرت ظروف المقاومة المباشرة. وفي تجارب الشعوب التي حاربت من أجل الحرية ما يكفي من دروس المقاومة الشعبية، ليست دائماً مسلحة، القادرة على تحميل المحتل كلفاً عالية. وإن كانت قيادة الشعب الفلسطيني ونخبه فقدت القدرة على التفكير خارج الصندوق، فلا ريب أن الشعب الذي أبدع الانتفاضة الفلسطينية الأولى قادر على ابتكار مقاوماتٍ شعبيةٍ، تقفز به من مربع السؤال الخانق إلى ساحات العمل المؤثر.

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.