عندما يهدد كورونا الاستقرار السياسي في تونس

عندما يهدد كورونا الاستقرار السياسي في تونس

29 مارس 2020
+ الخط -
استطاعت النخب السياسية التونسية الفائزة في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول تشكيل حكومةٍ كان ميلادها عسيراً، فبعد إسقاط حكومة الحبيب الجملي، تمكّنت الأحزاب، تحت ضغط الرئيس قيس سعيد، ووفق الهامش الضئيل الذي منحه إياه الدستور، من أن تشكل حكومة برئاسة إلياس الفخفاخ. وبذلك تم قطع الطريق أمام سيناريوهات أخرى عديدة، طرحها بعضهم استناداً إلى تأويلات أخرى للدستور، خصوصاً في غياب محكمة دستورية.. ذهب الجميع، كرهاً أو طوعاً، إلى القبول بما عرفت بـ"حكومة الرئيس". وما إن تشكّلت، بعد مصادقة مجلس النواب عليها (126 صوتاً من 217 صوتاً)، حتى عمّت جائحة كورونا العالم، ودخل الفيروس البلاد، واتخذت الإجراءات الأكثر إيلاماً للأفراد والجماعة الوطنية، فتم فرض الحجر الصحي الشامل، وتعطّل نسق الحياة العادي، في أجواء هلع وهلوسة عامة، لم تنج منها إلا فئات قليلة، على الرغم من أهمية الحملة الإعلامية التي نظّمتها السلطات العمومية. وانطلقت مبادرات مواطنية وجمعيات مدنية: الكشافة، الجمعيات العلمية، طلاب، منظمات وطنية لتخفيف آثار الوباء، خصوصاً في ظل شحّ الموارد المالية والتقنية للبلاد. ولا يخفى أن تونس دخلت، منذ سقوط النظام السابق، في أزمة اقتصادية واجتماعية حادّة ومطوّلة نسبياً. كان الجميع يعوّل على أن تحدث نقلة نوعية في هذين المجالين، مع تولّي الحكومة الجديدة، فتبدأ في تخفيف الوطأة الاقتصادية، خصوصاً التي أصابت القدرة الشرائية، وأنزلت مواطنين عديدين إلى مراتب سفلى من الهرم الاجتماعي. علاوة على تردّي جودة الخدمات، خصوصاً في الصحة والتعليم، القطاعين اللذين كانت البلاد قد راهنت عليهما منذ الاستقلال، وكسبت بهما بعض علامات التميّز في محيطيها، العربي والدولي.
تجري كورونا بما لا تشتهي الدول. تضاعفت التحدّيات والصعوبات التي ستواجهها الحكومة التونسية التي انضافت إليها أعباء لم يكن بالإمكان توقعها. في هذه السياقات الضاغطة، وللتخفيف من البيروقراطية (بطء الإجراءات، صعوبة اجتماع مجلس النواب في ظل المخاطر الصحية...)، طالبت الحكومة أن يفوّض إليها مجلس النواب حق إصدار المراسيم، وفق ما ورد 
في الفصل 70 من الدستور: "يمكن لمجلس نواب الشعب، بثلاثة أخماس أعضائه، أن يفوّض بقانون لمدة محدودة لا تتجاوز الشهرين، ولغرض معين، إلى رئيس الحكومة، وإصدار مراسيم تدخل في مجال القانون، وتعرض حال انتهاء المدة المذكورة مصادقة. يستثنى النظام الانتخابي من مجال المراسيم". عرض رئيس الحكومة مبادرته التشريعية، ولكنه جوبه بصدّ حاد من الكتلتين الأكثر تمثيلية في مجلس النواب، لحركة النهضة وحزب قلب تونس، وسط شكوك في "استغلال الوباء للانقضاض على السلطة"، والانقلاب على النظام السياسي الذي يمنح مجلس النواب مكانة حاسمة في النظام السياسي. وكانت المجالات التي عدّدها المشروع المقدّم واضحة، ومتعلقة تحديداً بمكافحة الوباء، إلا أن الصيغة المقدّمة تم رفضها فأحيلت مجدّداً على لجنة مختصة للمراجعة. وربما تحرز النسخة المنقحّة من المشروع موافقة مجلس النواب، ولكن ذلك لن يبدّد عاصفة الشك وانعدام الثقة التي ستظل مستمرة، حتى وإن كتب للبلاد الخروج معافاة من وباء كورونا.
تشكلت الحكومة على مضض، وذهبت إليها حركة النهضة غير مقتنعة تماماً، خصوصاً وهي مجبرة على أن تتحالف مع أشد خصومها الذين أسقطوا حكومتها، والذين لم يكفّ بعضهم عن شيطنتها، حتى وهو شريكها في الحكم. ويبدو أن حجم منسوب انعدام الثقة مرشّح للتراكم، حتى إذا استطاعت هذه الحكومة أن تتجاوز محنة كورونا بنجاح فائق.. ما يغذّي هذا المنسوب هو "ظل الرئيس" الذي يتمدد بشعبويته المزعجة. تخشى "النهضة" وغيرها أن يؤدّي هذا إلى نسف المنجز الديموقراطي، على محدوديته، والذي اكتسبته تونس، علاوة على آثاره السيئة التي قد تتسرّب إلى الثقافة السياسية: تقزيم المؤسسات المنتخبة، تعملق مؤسسة الرئاسة على حساب المؤسسات الدستورية الأخرى: مجلس النواب والحكومة.
لا يستطيع رئيس الحكومة، إلياس الفخفاخ، أن ينحاز إلى مجلس النواب، أو يرسم مسافة أمان سياسية على رئيس الجمهورية، في معركةٍ غير خافية لم يفلح رأساها في أن يكتما غيظهما، أو يحجبا استياءهما المتبادل، وقد ظهر ذلك جلياً حين تم البدء باتخاذ إجراء الحجر الصحي وحظر الجولان (التجول).. إلخ (معركة الصلاحيات وتأويل فصول الدستور الخاصة بذلك). يدرك رئيس الحكومة أنه "مرتهن"، ولو أدبياً بشكل ما، إلى رئيس الجمهورية الذي شرّفه بهذا التكليف، وهذا لا ينتقص مطلقاً من كفاءته وخصاله التي قد يجد الفرصة سانحة لتعزيزها، لو أحسن إدارة الأزمة، وقدرت حكومته على اجتياز المحنة بأخفّ الأضرار.. يذكّرنا حاله بما قاله هيغل، وهو يصف عناء من يتسلّط عليه سيدان خصمان، يصدران له في وقت واحد أوامر متعارضة: كيف يُرضي الفخفاخ مؤسستين، بينهما جبال من انعدام الثقة والتنافس والريبة؟
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.